السبت 4 مايو 2024
كتاب الرأي

كمال السعيدي: الصورة التي نرسم عن الأشياء التي نحب لا تعكس الحقيقة دائما

كمال السعيدي: الصورة التي نرسم عن الأشياء التي نحب لا تعكس الحقيقة دائما كمال السعيدي
قبل خمس سنوات كنت قد دونت على صفحتي نوعا من الحكي على مراحل عن تجربة أول زيارة لي إلى أوروبا رفقة صديقين وكان ذلك خريف 1997 .. قمت بالعودة الى تلك الفقرات وأعيد نشرها مجموعة للذكرى وليطلع عليها من فاته ذلك وكلي أمل في الإفادة والإمتاع ولو قليلا .. 
1- كنّا قد قررنا أن نسافر سويا إلى أوروبا في جولة عبر السيارة .. وعلينا أن نحدد على سيارة من، منا نحن الثلاثة، سيقع الإختيار كي تقلنا في هذه الرحلة الجماعية .. فكرنا بداية في إجراء القرعة، ثم عدلنا عنها لأننا في الواقع تخوفنا من شيء بدا أنه قد يعكر علينا صفو السفر .. حيث أننا قد امتلكنا سياراتنا ساعتها من خلال عملية تعشير عربات قادمة من إيطاليا  .. هذه السيارات تحمل عادة شبهة، قد تكون مسروقة أو بأوراق غير سليمة وهناك احتمال حتى لو كان ضعيفا، بأن يشكل مرورنا أمام الجمارك لحظة حمالة لأسوء المفاجآت .. "لماذا علينا أن نغامر  إذن ؟!"  هكذا تساءل كل واحد منا في قرارة نفسه ثم على الملأ .. فما العمل ؟؟ لم يكن هذا السؤال بالعمق الذي طرحه لينين على نفسه .. إذ سرعان ما انتبهنا إلى سيارة رابعة كان يمتلكها صديق آخر لم يكن معنيا بالسفر معنا ، قادمة بدورها من دولة أوروبية ولكن ليس لصاحبها نفس هواجسنا فعقدنا معه صفقة مربحة .. يسلمنا سيارته التي كانت متهالكة بعض الشيء لنسافر بها مقابل أن نقوم نحن بإصلاحها وتأهيلها لهذه المهمة في مسيرة شاقة وطويلة .. وكذلك كان ..
2- ذهبنا إلى طنجة وليس لنا أدنى فكرة عن سفر من هذا النوع .. كان الوقت خريفا ولكن ليل طنجة ذلك المساء كان باردا إلى حد لم أطقه أنا القادم من مدينة خريفها عادة هو أشبه بصيف ممتد .. قمنا بإجراءات المرور بكل يسر والسعادة تعلو المحيى استعدادا لمغامرة كانت في المحصلة أقوى مما تخيلنا .. ركنّا السيارة في جوف العبّارة التي ما إن بدأت تمخر عباب البحر الهائج حتى أصابني الدوار .. ثبا !! كان غالبا ما يصيبني وأنا في الحافلة أو في المقعد الخلفي لأي سيارة لا أقودها بنفسي، ولكن دوار البحر هذا كان أشد وطأة وأقوى وقعا .. تمالكت نفسي حتى وصلت بها إلى بر الأمان .. فلا يعقل أن يغلبني مزاج هذا البحر الذي سبقني إليه على قوارب اللاعودة أجداد فاتحون .. 
-3 نزلنا من الباخرة ليلا وكنا نتضور جوعا إذا لاشيء على ضهرها كان يفي بالغرض، كانت وجهتنا وأولى محطاتنا هي مدينة ميلانو الإيطالية حيث كان "عمر " قد تلقى في شأنها دعوة من صديق له .. تصورنا أنه ربما في الطريق إليها سنجد ما نسد به الرمق كما هو الأمر على الطرق المغربية ولكن لا شيء من ذلك فقررنا أن نلتهم المسافة بدل الطعام .. وهكذا طوينا ما تيسر من الطريق ولم نتوقف إلا عند مدخل مدينة "آليكانتي" وبالضبط عند موقف السيارات الخاص بسوق ماكرو الممتاز على ما أذكر .. اقتنينا منه ما يكفي لقمع الجوع لمدة محترمة ، أذكر أن محلا للهواتف المحمولة كان يضع إشهارا لموديلاته بأثمنة جد رمزية في الوقت الذي كانت فيه تلك الهواتف حكرا في المغرب على بعض رجال الأعمال وقلة من الميسورين .. لو لم نعرف بعد حين من التعجب والإستغراب أن ثمن تلك الهواتف كان رمزيا بسبب الإلتزام بعقد الإشتراك لكنا اشترينا من صاحب المحل الجمل بما حمل .. آه كم تبدو الآن هواتف تلك المرحلة مقابل التي نستعمل اليوم بدائية ومتخلفة للغاية !! ..
 استأنفنا الطريق وقد كنّا نتناوب على سياقة السيارة لربح الوقت وحتى نستريح لكن دون أن تتوقف هي .. عانت المسكينة بسبب السرعة التي كنا نجتهد للوصول إليها كما لو كنّا فحولا تتنافس بلا رحمة على امتطاء أنثى وحيدة .. كان هذا قبل أن يصيبنا الوهن ، السفر متعة حقيقية ولكنه كذلك تعب ومشقة .. اكتشفنا كيف أن إسبانيا دولة شاسعة وأن الطريق إلى حدودها الشمالية عبر الساحل طويلة ومرهقة .. دخلنا إلى مدينة برشلونة بالخطأ، إذ لم تكن في برنامجنا واكتشفنا في حدود ما رأينا منها مدينة جميلة ونظيفة .. ولكن تُهنا هناك حيث لم تعد تجدي خرائطها نفعا ولم نتمكن من العودة إلى الطريق السيار إلا بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة .. لم يكن يفصلنا عن الحدود الفرنسية الشيء الكثير ولكن النوم كان قد أصبح سيدا ولا سلطان لنا عليه فاستسلمنا له طائعين .. كانت ليلة من أصعب ماعرفت، مغص شديد سيلازمني حتى إيطاليا وزيارة للطبيب هناك ، فضلا عن البرد القارس الذي لا عهد ولا قبل لي به خاصة وأننا قضينا الليلة هناك على مثن السيارة والتي كان مكيفها قد أصابه العطل .. 
-4 .. كان المقطع الفرنسي في رحلتنا الأولى إلى ميلانو  قصيرا قياسا إلى الجزء الإسباني من الطريق ، حوالي خمسمائة كيلومتر محاذية للشريط الساحلي  لاكوت دازير مفخرة السياحة الشاطئية الفرنسية .. قطعناها بدون مشاكل تذكر باستتناء البطء الذي فرضته علينا ضوابط السرعة في الطريق الوطنية إلى أن توقفنا عند الحاجز الجمركي عند الحدود الفرنسية الإيطالية على مستوى مدينة ڤانتي ميليا ..  هناك طلبت منا شرطية فرنسية تفتيش السيارة والتي كانت تحمل طبعا رقم تسجيل مغربي وربما كان من النادر أن تمر سيارات مغربية من هذا الحاجز ، عند التفتيش وجدت كيسا بلاستيكيا شفافا بِه مقدار من مادة السفوف أو سلو  ممزوجة بالزيت البلدي كنت أنوي تسليمها مع أشياء أخرى إلى أخي الأصغر والذي كان قد انتقل لمتابعة دراسته في سلك الدكتوراه ببروكسل، شخصت إليها أنظار الشرطية دونا عن الباقي ، فسألت عن ماهية هذا المنتوج الغريب وهمهمت بشيء في إذن رفيقها .. رباه !! اكتشفت لحظتها أن السفوف المغربي يشبه شكلا ولونا وإلى حد كبير منتوجا مغربيا آخر لا يمكن أن تخطأه عين جمركية متمرسة !! حبست نوبة من الضحك كادت أن تنتابني، ولو أطلقت لها العنان لازدادت شكوك الجمركية ، فاكتفيت بابتسامة المؤمن المطمئن وقلت بعد أن وجدتني عاجزا لأول مرة عن تحديد دقيق لماهية سلو، أن هذا الشيء مجرد أكلة يستهلكها المغاربة خصوصا في رمضان وبعض المناسبات .. حاولت تذوق بعضه لتأكيد ادعائي لكن الشرطية كانت قد حسمت أمرها في تصديق روايتي .. ركبنا السيارة ونحن نضحك بخصوص هذه الحادثة الطريفة .. وسيكون لنا في طريق العودة إلى فرنسا ومنها إلى بلجيكا ثم إسبانيا مرة أخرى أحداث وطرائف ومشاكل لا تنسى سنأتي على ذكرها في القادم من الحكي ..
5 - بعد رحلة ذهاب شاقة وصعوبات النوم على مثن السيارة وصلنا أخيرا إلى ميلانو متعبين .. استقبلنا صديق عمر بحفاوة وبالكرم المعهود في سكان خريبكة .. انتقلنا معه إلى البيت حيث قضينا أول ليلة على فراش دافئ .. من يزور ميلانو لا بد وأن يذهب إلى ساحة الدومو الشهيرة حيث تنتصب كاتيدرائية عظيمة شاهدة على عمق الحضارة الإيطالية ورقي معمارها وطابعها الفني الفريد .. ولا تقل عنها روعة وبهاء، معلمة أخرى مجاورة وهي عبارة عن تحفة فنية على شكل رواق يحمل إسم فيتوريو إمانويلي .. هذه الساحة هي قلب ميلانو السياحي لذلك تلتقي هناك بكل الأعراق والجنسيات دون أن يعكر أي شيء جمال ذلك اللقاء العالمي .. 
في ذلك اليوم وهو الأول من نوعه بالنسبة لي وكان قد سُمح لنا ساعتها بالصعود إلى سطح الكاتيدرائية التي يعلو قمتها تمثال أصفر من الذهب الخالص ، أذكر أنه قيل لنا كيف أن المافيا كانت قد تمكنت من سرقته في عملية نوعية استعانت خلالها بطائرة مروحية، قبل أن تستعيده السلطات الإيطالية .. أما عن الرواق الذي تحيط به سلسلة من الأقواس المصممة بشكل رائع وفِي منتهى التناغم والجمال فقد كانت توجد به أشهر محلات الموضة العالمية .. هناك وجدنا مجموعة من الزائرين يلتف الواحد منهم بعد الآخر على رجله فوق نقش فسيفسائي لثور جامح .. عرفنا أنهم يفعلون ذلك طلبا للحظ فتذكرت حجرة مولاي بوعزة !! .. زرت ميلانو عدة مرات بعد ذلك وفِي كل مرة كنت أضع قدمي على خصية ذلك الثور تماما كما تقول الأسطورة وألتف مثل الباقين، لكن ليس طلبا للحظ فمثلي لا يصدق الأساطير ولكن لأنني كنت أشعر أن مجرد زيارة هذا المكان البديع والإستمتاع بروعة معماره واستنشاق عبق التاريخ الذي يفوح منه هو في حد ذاته شيء قد لا يتاح لمن لا يعرفه الحظ ..
6- في منطقة الفينيتو الغنية شمال إيطاليا وبالضبط على ساحلها المطل على بحر الأدرياتيك تتربع تحفة فنية أخرى على عرش السياحة الإيطالية ومما لا شك أن سُمعتها تسبقها إلى كل مكان .. لذلك كان من الضروري أن نزور فينيسيا أو المدينة العائمة كما يشاع ، في الواقع لا أعرف لماذا نسميها نحن العرب بالبندقية !! أجده إسما غريبا ولا يحدث في أذني تلك الرنة الرومانسية المنبعثة من الإسم الإيطالي VENEZIA ..  
كما في كل المدن السياحية العالمية التقينا في ساحة سان ماركو بزوار قادمين من كل مكان من هذا العالم المترامي .. 
هناك تسمع أحاديث بكل اللغات .. بما فيه لغتنا الدارجة وأذكر أنني شاركت في هذا " المؤتمر اللغوي " بلغة خاصة بي كنت قد ابتكرتها بمعية زميل في الإعدادي وهي من نوع ما نسميه عندنا ب" الغوص" أي اللغة المرمزة والتي لها شفرة معينة لفهمها ..  لا أدري لماذا أخرجتها مجددا في تلك اللحظة بالذات من درجها المركون في ذاكرتي ونحن على ظهر القارب -الحافلة رفقة عشرات السياح من مختلف الجنسيات ، ربما كان ذلك فقط من فرط السعادة ..
كنّا على وشك الإنتهاء من الجزء المخصص لإيطاليا في رحلتنا ونستعد للمرحلة الفرنسية .. لذلك ذهبنا إلى متجر كبير لإقتناء ما قد نحتاجه في طريقنا ولا زلت لا أفهم إلى اليوم لماذا كان ضمن مشترياتنا أيضا نزر من مستلزمات التنظيف المنزلي ومرطبات يدوية من نوع نيفيا وعطور رخيصة ولعب أطفال نحملها إلى المغرب !! كلما تذكرت ذلك إلا وضحكت ملء في وسخرت من نفسي على الأقل ..
7- كنا قد قررنا أن ندخل فرنسا من أقرب معابرها إلى مدينة گرونوبل حيث يقيم أخ هشام صديقنا الثالث .. لم يكن الأمر بنفس سهولة اليوم ولا كنّا نملك جهاز الجي بي اس ولا نفس خبرة التعاطي مع الخرائط الأوروبية .. كان علينا وفق المرسوم أن نمر من نفق يخترق جبال الألب يسمى قناة فريجيس، لم نكن نعرف أنه من أطول الأنفاق في العالم ولا أننا سنصادف به إصلاحات ، والأدهى أننا عندما عبرناه ليلا كنّا أصحاب السيارة الوحيدة التي تكسر صمت القبور الذي يخيم عليه .. ونحن نسير ببطء شديد انتابنا شعور بالخوف من أننا أخطأنا الإتجاه .. وَكان مِمَّا زود شكوكنا أن سمعنا ونحن نغادر النفق وسط ظلام دامس ونتلمس بالكاد اتجاه الطريق الصحيح صوت قطار ثم صوت أجراس يحملها قطيع ماشية صحبة بعض الكلاب ، ترى أين نحن ؟؟ يا الله أغلب الظن أننا قد تهنا .. هكذا كنّا نتساءل بجدية وصرامة قطعت مع مظاهر الهزل واللغو التي رافقتنا طوال الطريق ..
انتهينا إلى أن نتبع الحكمة المغربية التي تقول "لي تلف يشد الأرض"  فما أن وصلنا إلى أول قرية حتى ركنا السيارة في مرتفع ونمنا إلى الصباح لعله صبح وفتح .. 
عرفنا بعدها إسم المكان، معبر حدودي يسمى باردونيكيا .. وقد قيل لي في ما بعد أن تلك منطقة يرتادها المهربون .. 
من غرائب تلك الرحلة أن شرطي الحدود وبعد أن سألنا إن كنّا نحن من قضى الليلة على المرتفع ، أن استغرب كيف دخلنا إيطاليا بتأشيرة فرنسية !! ذلك لأنه لم يكن يعلم أن حكومة بلده قد وقعت على اتفاقية شنغن وأنها قد دخلت إلى حيّز التنفيذ بها أسبوعا كاملا قبل مرورنا للسلام عليه وتحيين معلوماته .. 
في گرونوبل الفرنسية كان يستوقفنا أبناء الجالية للسلام راجين منا تبليغ أحر التحيات لمدينة الخميسات ظنا منهم أننا قدمنا من هناك كما كانت توحي لهم بذلك لوحة السيارة ..
8- كانت الوجهة بعد كرونوبل التي لم نقض بها أكثر من يوم واحد هي مدينة مونبيليار في الشمال الشرقي لفرنسا على مقربة من الحدود السويسرية ما بين بيزونسون وستراسبورغ .. هناك كان يقيم خالي بإحدى الضواحي العمالية المحيطة بأكبر مصانع « بوجو »  حيث كان يشتغل منذ أن غادر المغرب مع أول جيل من العمال المهاجرين .. مصنع بوجو-سوشو هذا هو المحرك الأساسي للصناعة ومعها سائر الحياة الإقتصادية ببلاد المونبيليار كما يسمونها هناك، والمعروفة كذلك بإنتاجها لنوع من الأبقار يحمل نفس إسم المنطقة ويتميز بجودة عالية وصيت عابر للحدود بين مربيي المواشي .. 
هذا كل ما كنت أعرف عن المدينة ولكن رغبة ما كانت تحدوني لزيارتها، لم تكن مرتبطة أبدا بأهداف سياحية بقدر ما كانت إستجابة لفضول طفولي كان قد راودني بإلحاح، كنت أريد في الحقيقة أن أطرق ذلك البيت حيث يقيم خالي وأبناؤه وأن أقف على مذى مطابقة واقع ذلك العالم البعيد للصورة التي ترسخت في ذهني عنه من فرط ما تخيلته وأنا طفل صغير بمناسبة الزيارة التي كان يقوم بها خالي إلينا صيف كل سنة سيرا على عادة أفراد الجالية المغربية .. 
اكتشفت كيف أن الصورة التي نرسم عن الأشياء التي نحب لا تعكس الحقيقة دائما .. واكتشفت ركنا فرنسيا جميلا بأناقته ومناظره الخلابة ولوحاته الرائعة التي كانت ترسمها أوراق الشجر بألوانها الخريفية كما لم أشاهدها من قبل ..
قضينا يومين أو ثلاث في ضيافة خالي و ابنته الكبرى (التي رحلت عنا منذ سنتين تقريبا ولا زال فراقها جرحا موجعا) .. كانت مناسبة لنربط العلاقة مجددا مع وجبات الطبخ المغربي بعد قطيعة فرضتها علينا شروط السفر ..
عقدنا العزم على التوجه نحو العاصمة البلجيكية، لكن بطارية السيارة لم تسعفنا وكان ينبغي استبدالها بواحدة جديدة .. اقترح علينا ابن خالي الذي يصغرني بأقل من أسبوعين أن نترك سيارتنا في مكانها وأن يحملنا معه في سيارته الخاصة إلى بروكسيل ومنها إلى باريس وكذلك كان .. 
9- كانت تلك أول زيارة لي إلى بروكسيل، وقد كانت زيارة خاطفة أملتها شروط وظروف خاصة .. كان قد وقع الإختيار على أخي الأصغر رفقة ثلاث طلبة من دفعته بإحدى مدارس المهندسين المغربية لإستكمال الدراسة بسلك الدكتوراه في الجامعة البلجيكية ولم يكن قد مضي على التحاقه بها إلا حوالي شهر أو أكثر بقليل .. فاعتبرت ذهابي إليه بمثابة دعم وسند له في غربته الجديدة .. عندما تعرفت على بروكسيل أول مرة وجدتها مدينة كئيبة، ملبدة بالغيوم والتجشم بالسما كما قال إليا أبو ماضي .. بناياتها عتيقة ويعود بعضها لقرون، ذلك لأن بلجيكا لم تتعرض للتخريب إبان الحرب بسبب استسلامها أو هكذا كان يقال على الأقل .. لكن زياراتي المتتالية لبروكسيل بعد ذلك جعلتني أقع في حبها وأغير رأيي فيها وأن أتعرف على مدينة أخرى غير تلك التي شاهدت في رحلتي ولحظتي الأولى ..    
في تلك الرحلة زرنا معلمة الأطوميون وهي عبارة عن مجسم معدني كبير على شكل ذرة .. وكذلك مكانا آخر يسمى زنقة برابان أو برابانت .. زنقة تجارية على النمط الشعبي المغربي وكأنك في درب عمر بالدار البيضاء، هناك يمكنك أن لا تتكلم بغير الدارجة ودون أن يعترضك أدنى مشكل تواصلي .. في بروكسيل تجد جالية مغربية كبيرة تشعرك وأنت تتجول في بعض أحيائها بحرارة البلد وبعض من تلك الأحياء يسميها المغاربة هناك من باب الهزل بالمناطق المحررة  ..
وكان مما استرعى انتباهي، انتشار محلات دعارة مرخصة حيث يتم عرض نساء في مقتبل العمر شبه عاريات خلف واجهات زجاجية لجلب زبائن الجنس السريع .. كان هذا الأمر صادما بالنسبة إلي .. كنت أعرف أن المرأة في الغرب متحررة بشكل كبير عن مثيلاثها في عالمنا نحن وأن الدعارة مسموح بها في بعض البلدان الأوروبية ويغض بعض الطرف عنها في أخرى ولكن لم أتصور أبدا أن يتم عرض النساء في واجهات زجاجية مثل أي بضاعة أو منتوج للإستهلاك في بلد ينتمى إلى حضارة تتبجح بحقوق وحرية المرأة .. لم أستسغ أن تكون حرية المرأة رديفا للجنس المدفوع الثمن في وضع يحط من كرامتها.. لا يمكن أن يكون الجنس سلعة ولا أن يكون جسد المرأة سلعة .. شيء ما في حضارة الغرب التي تبهرنا ليس على مايرام .. هكذا بدا لي الأمر ولا يزال ..      
قبل أن يسدل الليل ستاره على بروكسيل كان أخر مكان نزوره هو ثمثال مانكين بيس ( لم أكن أعرفه باسمه هذا ساعتها ) أو الطفل البرونزي غير المهذب الذي يتبول ماء وأحيانا جعة كما قيل لي .. أتذكر أنني التقيت في ذلك المكان بشابة كانت تبتسم وتلوح بيدها.. ألتفت يمينا ويسارا ظنا مني أنها تلوح لشخص آخر لكنها أصرت على أنني المقصود .. اقتربت منها وسلمت عليها، بادلتها بعض الكلمات بما علق بذهني من انجليزية الثانوي البسيطة بعد أن عرفت أنها سائحة أمريكية استلطفتني وأنها مستعدة لتعميق المعرفة وأن نقضي الليلة معا .. اعتذرت لها بلباقة واكتفيت بأن أخدت معها صورة للذكرى احتفظ بها إلى الآن .. لم تكن المسكينة تعرف أننا قضينا الليلة ضيوفا في بيت صديق لأخي كان بالكاد قد تعرف عليه أياما قليلة قبل وصولنا ..
10ـ كان لزيارة باريس طعما خاصا .. هذه المدينة ليست عاصمة فرنسا لوحدها، إنها تختزل بين ثناياها وفي شوارعها ومعمارها تاريخ وحضارة هذا الغرب ..قضينا بها يوما رائعا في جو مشمس ودافئ وقد تنقلنا بين معالمها من برج إيفل وجنبات متحف اللوفر إلى برج مونت بارناس ومركز جورج بومبيدو .. كان ذلك كافيا بالنسبة لزيارة قصيرة وغير منظمة .. ودعنا العائلة بمومبيليار حيث كنّا قد تركنا سيارتنا الخاصة ، بعد أن قمنا بتغيير بطاريتها وانطلقنا في رحلة العودة ..
بدأت أولى المشاكل التي اعترضتنا في وسط إسبانيا بارتفاع درجة حرارة محرك السيارة ونقص في مياه التبريد .. قال لنا الميكانيكي إن إصلاح المحرك يحتاج إلى الوقت والمال وأنه من الأفضل أن نستمر في الرحلة مع إضافة سائل التبريد كلما ارتفعت حرارة المحرك مع عدم إغلاق خزان الماء .. تمكننا بهذه الطريقة من ربح مسافة مهمة ولكن مع مرور الوقت أصبحت الحاجة إلى التوقف لتزويد محرك السيارة بمياه التبريد تزداد لذلك غادرنا الطريق السيار نحو الطريق الوطنية حيث يمكننا التوقف والتزود بسهولة .. كان الليل قد أرخى بستائره وثيابنا قد اتسخت بفعل الإحتكاك مع مكونات السيارة تحت الغطاء الأمامي .. أتذكر أننا كنّا نثير الذعر لذى أصحاب محطات البنزين إذ بمجرد ما نضع أمام الواحد منهم قنينة أو برميل ونسأله عن الماء آگوا .. حتى يهرع المسكين ليعبئها وهو يتمنى أن نغادر بسرعة لأن ملامحنا المتعبة وثيابنا المتسخة لم تعد تبعث على الإطمئنان .. وعندما كان يتعذر علينا الحصول على الماء نستعمل بولنا لإطفاء حرارة المحرك .. نعم هو أمر لا يصدق ولكن للضرورة أحكام .. وكان مما زاد من متاعبنا في تلك الليلة الظلماء هبوب رياح شديدة وذات سرعة غير عادية على الطريق على امتداد منعرجات سلسلة جبال السييرا نيفادا بالجنوب .. هناك أصبحت السياقة صعبة للغاية وبرع صديقنا عمر في مراوغة الرياح والتواءات الطريق لمدة غير يسيرة قبل أن تفقد السيارة قدرتها على الإستمرار وتصاب بالعطل الذي لم يعد ينفع معه "بريكولاج " .. 
11ـ توقفت بنا السيارة ليلا في مكان لم نعرف ما هو إلا صباحا حيث تبدت لنا في الأسفل ملامح مدينة آندلسية صغيرة أعتقد أنها '' المينيكار'' .. قصدنا صاحب أول مقهى لتناول الفطور ومن تم السؤال عن وسيلة لنقل السيارة إلى ميناء الجزيرة الذي كان يبعد عنا بأكثر من مائتي كيلومتر .. كان عمر هو الوحيد الدي يتحدث بالإسبانية ولكن ليس إلى درجة الإتقان وحتي اسبانيته لم تسعفه للتفاهم الكامل مع صاحب المقهى الدي يتحدث لغة محلية اندلسية لا تشبه كثيرا الإسبانية التي نعرف .. استغرق أمر طلب ناقلة الأسعاف أو" الديباناج" بيننا ساعات من حوار الطرشان .. قبل أن يصيح أحدهم وقد اكتشف المطلوب " گرووا .. گرووا " فتذكرت كلمة Grue الفرنسية وأيقنت أن الرجل قد توصل إلى حل اللغز .. وهكذا اتصل بالشركة التي نقلت السيارة إلى ميناء الجزيرة وعلى مثنها صديقنا هشام في ما ركبنا عمر وأنا الحافلة التي كانت تمشي ببطء شديد وتتوقف عند محطات متتالية كان أكبرها وأجملها محطة مالاگا ..
التقينا مجددا في ميناء الجزيرة وقد انفرجت أساريرنا ونحن نشعر بأننا تغلبنا في النهاية على كل صعوبات الطريق وأن متاعبنا هي في النهاية ملح هذا السفر ومغامرة لطيفة ..
في ميناء طنجة قبلنا تراب أرض الوطن ونحن نحمد الله على عودة سالمة إليه وإن لم تكن غانمة اللهم بما كان من ذكريات جميلة ومواقف طريفة ترسخت إلى الأبد .. طبعا أصلحنا سيارة صديقنا الذي لم يسافر معنا وشكرناه على ثقته فينا ..
انتهى .. إلى حين ..