الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الحكيم الزاوي: غريغوري لازاريف.. البادية المغربية وعنف التحول

عبد الحكيم الزاوي: غريغوري لازاريف.. البادية المغربية وعنف التحول عبد الحكيم الزاوي
يحضر اسم غريغوري لازاريف عند مُختصي العلوم الاجتماعية، وتحديدا عند المهتمين بسِجل السوسيولوجيا القروية مُقترنا بمجال البادية المغربية في فترة مخاضها الكبير، والقصد بذلك مخاض التحول. مكث لازاريف في المغرب مُدة طويلة جدا تفوق خمسين سنة..
وفي هذا الحضور، اشتبك لازاريف مع إشكالية التحول الاجتماعي في بوادي المغرب في فترة فاصلة بين مغرب ما قبل الحماية وما بعدها، وقد يظهر تميزه أكثر وضوحا في محاولته استقراء الأسس المُهيكلة للتحول الاجتماعي في الممارسات المادية والبنيات الذهنية للسكان القرويين مُتوسلا بمنهج الملاحظة والاستقراء الميداني، ومُستثمرا عطاءات المقاربة التاريخية.
منهجيا، يُضفي لازاريف حُمولة خاصة على مفهوم التحول الاجتماعي، إذ لا يقصد به مُجمل التطورات الاجتماعية التي يُعبر بها الأفراد عن معاشهم وعن مجالهم الإيكولوجي...بل ما يُنتجوه من سلوكات اجتماعية تفصح عن عمق انتمائهم المادي والذهني بالشكل الذي يفصح عن انتقالهم من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث. والحقيقة، قد لا يُفهم التحول إلا بالنظر إلى وضعه السابق، ومن خلال تدقيق النظر في أبعاد الهوية والقرابة والبنيات السياسية المشكلة لبنية المجتمع القبلي...
يُدقق لازاريف في شروط هذه النقلة، وفي سياق ذلك، يجري تشريحا مِجهريا للمجتمع التقليدي المغربي قبل الاستعمار. وفقا لذلك، يُشيد لازاريف المجتمع التقليدي على علاقات أسرية وقرابية تضمن له نوعا من تساوي العلاقات الاقتصادية ضمن نظام جماعي متأسس على تقسيمات اجتماعية للعمل، وثانيا على ضُعف الحركات الاجتماعية وارتباط تحولاتها بالمرجعية الدينية ضمن حدود ترابية متوافق عليها مع الجيران، وثالثا على خضوع الزمن الاجتماعي لميكانيزم التكرار بالشكل الذي لا يسمح بظهور بدائل جديدة، مع ما يتناسب مع هذه الفرضية من عتاقة وسائل الإنتاج وبساطة المعرفة التقنية المرتبطة بالإنتاج الاقتصادي...
بعد التشريح، يتتبع لازاريف أربعة مظاهر لحقها التحول الاجتماعي في مغرب الحماية وما بعدها: فمن جهة أولى، الظاهرة الايدولوجية المتصلة بلحظة الاستقلال التي أحدتث تغيرا اجتماعيا، ورسمت زمنا اجتماعيا جديدا؛ ومن جهة ثانية، على مستوى النمو الديموغرافي الذي كان بحق أهم عامل في حدوث التغير الاجتماعي من خلال خلخلة العلاقات التاريخية بين الحاجيات والتطور، ودفع البادية المغربية إلى الانفتاح على الخارج من أجل تلبية حاجياتها الاقتصادية، وتُغير علاقاتها وقيمها الأسرية والذهنية؛ ومن جهة ثالثة، على مستوى انتشار العلاقات النقدية في الممارسات الاقتصادية...
ويمكن قياس التحول من خلال عبور المجتمع القبلي من نمط اقتصاد الكفاف إلى نمط اقتصاد التبادل الذي مكنه من تحقيق الأرباح، ومن وضع الخماس إلى الفلاح الأجير أو العامل الزراعي؛ وأخيرا على مستوى ترسخ الوعي بالتغيير من خلال تفسخ الروابط القبلية وانتشار الوعي الوطني والسياسي، حيث ساهم ذلك في تجذير روابط الانتماء بالوطن، وعزز قيم المجتمع الرأسمالي...
بالنهاية، يُقر لازاريف بأننا إزاء مجتمع قيد التحول، لأن تاريخه الاجتماعي يكاد يكون دائريا يسعى فقط إلى تأمين المعاش...مع الحماية، بدأت بوادر التحول تظهر شيئا فشيئا، وبدأ الانتقال من اقتصاد الكفاف نحو اقتصاد التبادل، من حالة الأمن إلى حالة عدم الأمن، من حالة العزلة إلى حالة الانفتاح...وبالقدر الذي كانت فيه الحماية تسحب البنيات الحديثة نحو التغيير، بالقدر الذي كانت تُقوي مؤسسات المجتمع القروي، وتفصل بين مغربين: مغرب حديث نسبيا في الحواضر، وآخر قروي يرفض التفاوض مع التحديث.
 
د. عبد الحكيم الزاوي، ناقد وباحث