"هكذا تكلمت وهكذا انتهت سيرتي، هي مهرجان لكذب لغوي، صدقه بعض القراء، ومشت كتابتي على صراطهم قبل أن يمنحونا لغتي معنى، أزالوا عني معناي واصطفوا على خط قراءة شوهت علي لذة الكتابة"، بهذا الخطاب الميتاروائي تفتتح الساردة في رواية "سيرتي كذب" خط سردها، على التفكك والانجراح في مفترق الطرق والزلزال الكبير الذي يهز الأشياء والكلمات من حولنا، دوما تجد الشخصية الرئيسية نفسها بين وجع الحاضر وثقل جراحات الذاكرة، الانفصال بدل الاتصال، القطائع المؤلمة بدل التوادد، وحتى في لحظات التوافق بين الشخوص تأتي الموت لتقطف الأجمل وتترك البطلة علية لهواجسها وصراعها العاطفي والثقافي مع ماضيها وحاضرها، مع ذكرياتها في فاس وعذابات الجسد والروح في دروب شفشاون، ثم هناك الآخر الغرب، في شخصية الأب المهاجر بهولندا، أو في شخص جاكلين خاطفته من حضن أمها، "يد تمسك بها أمي ويدي الأخرى يمسك بها أبي، وأنا وسطهما، الكل يجرني من يدي ناحيته، كلاهما يريد أن يظفر بي للعيش معه دون الآخر، أما أنا فكنت أصرخ:
خالتي جاكلين أنقذيني"."
"سيرتي كذب" للروائية المغربية رشيدة محزوم، الصادرة حديثا عن دار كليم للطباعة والنشر والتوزيع بمصر في 127 صفحة من الحجم المتوسط، هي رواية التمزقات الكبرى للبطلة علية، شخصية ذات امتداد ثقافي بين فاس حيث الجذور، وشفشاون حيث الامتداد الثقافي لأمها "للا الشريفة ادريسية" وتلونات شخصية الأب سي محمد المهاجر بالديار الهولندية، الوطني حتى النخاع، العاشق للنساء وللنزوات برغم حظوة الشريفة ادريسية لديه، وابنه علي الذي يختار الانقلاب على الثقافة الذكورية المحافظة للأب سليل الحركة الوطنية، ويرتمي في حضن الاختيار الاشتراكي ويمارس تأثيرا ساحرا على علية أخته التي ستحس بوجع الفقد مرتين، بعد سجنه ثم بعد موته المبكر.
في رواية "سيرة كذب" يتقاطع الروائي والسير ذاتي بشكل ملفت للانتباه، تصبح اللغة شاعرية ومتحررة أكثر كلما استسلمت البطلة إلى استهاماتها، وإلى أسئلة قلقها الوجودي في مجتمع يقمع كل أشكال الانفلات من أسر الدوغما والمنظومات السلطوية القاهرة، تحضر النسوية كخطاب في رواية المبدعة رشيدة محزوم ليس كنوع من التعالي أو مجرد الترافع الساذج حول قضايا التحرر والمساواة والعدل، بل كخلفية فكرية عميقة تحاول أن تفهم الواقع قبل أن تحاكمه، أن تخلق متعة الحكي قبل سرد الوقائع، لذلك تميزت العديد من المقاطع الحكائية بلغة شاعرية تحاول أن تنفلت من إيقاع التصنيف وتلامس متعة اجتراح الحدود بين الأجناس الإبداعية دون المس بالخطوط الكهربائية العارية التي يستشعرها النقاد المفرطو الحساسية حول خصوصية الأجناس الأدبية.