هو بحث عميق قام به مولاي بوبكر حمداني، المتخصص في العلاقات الدولية، تحت عنوان: "المغرب من الاستقلال في ظل التبعية إلى "الاستقلال الاستراتيجي"، تناول فيه الحملة غير المسبوقة لفرنسا الرسمية والإعلامية ضد المصالح المغربية الكبرى.
"أنفاس بريس" تنشر هذا البحث على حلقات، فيما يلي الحلقة رقم 1:
"أنفاس بريس" تنشر هذا البحث على حلقات، فيما يلي الحلقة رقم 1:
في السنوات الأخيرة وبالموازاة مع التحركات الرسمية وغير الرسمية الفرنسية المعادية للمصالح العليا المغربية، لوحظ شراسة الإعلام الفرنسي ضد المغرب على نحو غير مسبوق في حملة منسقة علتها نبرة خطاب تصف هذا البلد المغاربي بأنه "دولة تسعى الى الاخلال بالتوازن الإقليمي في المنطقة وتجاوز الدور المرسوم لها اوربيا، وانها توظف لهذه الغاية كل الوسائل بما فيها التجسس على شخصيات غربية سامية، بيد أن اللافت للاستغراب هو كون هذه التوصيفات نادرا ما تتسم بالمهنية والاخلاق الصحفية المتوازنة، بل تواترت معظمها في شكل لازمة رددتها وسائل الإعلام الفرنسية بمختلف تلاوينها كما نقلت عنها بقية المنابر الإعلامية الاوربية، بأسلوب نمطي شبه كاريكاتيرية اختزل الثقافة والمجتمع والنظام السياسي المغربي في بضع كليشهات تصنف المملكة في خانة "الآخر" المخالف للنموذج الفرنسي الحداثي، والمنعوت بالفقر والتخلف والأمية، وبكونه البلد "المارق" الذي هو مصدر كل التهديدات المنية من هجرة غير شرعية وجريمة منظمة ومخدرات، هذه إذن هي صورة المغرب في الخطاب الإعلامي الفرنسي الحالي، ليس كبلد عريق بحضارة ضاربة في التاريخ قوامها التسامح والتعايش بين الأعراق والاديان، بل هو فقط تكثيف من جديد لصورة "الرق" الغرائبي القابعة في عمق "المخيال الغربي" بتعبير إدوارد سعيد. مما اصبح يفرض ان أي قراءة للخطاب الإعلامي الفرنسي الراهن تجاه مستعمرات فرنسا السابقة بشكل عام والمغرب على وجه الخصوص، لابد أن يستحضر شبكات المصالح التي تقف خلفه، ولوبيات الضغط التي تبدو في ظاهرها إعلامية وثقافية في حين انها تخفي دوافعا سياسوية ونفعية أساسا.
وفي هذا الصدد شكلت الحملة الإعلامية الفرنسية الرديئة الاخيرة للمس بالمغرب ورموزه ومقدستها وتاريخه، والتي حاولت بشكل فاشل استغلال فاجعة المغاربة في "زلازل الحوز"، لتبث سموم التفرقة بين الشعب المغربي وحكامه، في تحرك مبتذل أسقطها في أحقر أدْرَانِ الإنسانية والجزء المظلم منها المتردي في النظرة الاستعلائية وعقلية الهيمنة الاستعمارية القديمة، هي حملة اذن يربطها خيط ناظم ألف بين عشرات الحوارات التلفزية والمقالات الصحيفة من اليمين الفرنسي، إلى الصحف التي تصنف نفسها ضمن التيارات اليسارية، وصولا إلى الصحف التي تعتمر قبعة الدفاع عن الحرية واعلاء القيم الإنسانية والاستقلالية كصحيفة "شارل ابدو"، وغيرها؛ ليتبين أنها كلها أدوات في يد القفازات البيضاء، حركتها في حملة عنصرية مرجعيتها المشتركة هي "العقلية المركزية الاوربية" التي تعتبر الغرب وأوربا هما المركز وبقية العالم هوامش تابعة.
بيد أن خطاب الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 68 لثورة الملك والشعب، أظهر وعيا مبكرا بهذه التوجهات المغرضة حيث ذكر أن "هناك من يقول بأن المغرب يتعرض لهذه الهجمات، بسبب تغيير توجهه السياسي والاستراتيجي، وطريقة تعامله مع بعض القضايا الدبلوماسية، في نفس الوقت، هذا غير صحيح. المغرب تغير فعلا، ولكن ليس كما يريدون؛ لأنه لا يقبل أن يتم المس بمصالحه العليا. وفي نفس الوقت، يحرص على إقامة علاقات قوية، بناءة ومتوازنة، خاصة مع دول الجوار." بهذه العبارات لخص الملك التوجه الجديد في العلاقات الدولية للمغرب سواء مع الشركاء التقليدين أو الجدد، وايذانا ببداية تحول محورية من مرحلة كانت توصف بأنها المملكة بأنها نالت "استقلالا في ظل التبعية، independence in interdependence" الى مرحلة دشنت فيها “الاستقلال الاستراتيجي، Strategic Independence "، أو “الحكم الذاتي الاستراتيجي للمغرب" " Moroccan strategic autonomy”.
ولا غرو أنه في الوقت الذي تعالت فيه الأصوات بأوربا لإيقاف مسيرة المغرب نحو تحقيق "استقلاله الاستراتيجي"، نجدها ترتفع للمطالبة بتحقيق "الاستقلال الاستراتيجي الاوربي" عن الولايات المتحدة، والتي كان آخرها تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حديثة عن ضرورة إلغاء تبعية القرار بدول الاتحاد الأوروبي عن واشنطن، وهي الدعوة التي فسرت على أنها استعادة لخطاب استقلالي يمتح من الفترة الديغولية في خمسينات القرن الماضي القائلة بفكرة "استقلال القرار الأوروبي" عن الصراع القائم آنذاك بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كما سبق لمسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل أن نشر مقالا عن خطورة تراجع أن الدور الأوروبي في العالم، وبأن تصير أوروبا "غير ذات أهمية" بعدما كانت حصتها من الرخاء العالمي قبل 30 عاما تمثل ربع الإنتاج الاقتصادي، في حين يتوقع أن تصل حصتها في غضون 20 عاما القادمة إلى حد أقصاه 11 بالمائة، معتبر أن "الاستقلال الاستراتيجي" هو "قضية البقاء السياسي" لأوروبا.
وبالعودة الى السياق المغربي اعتبر الملك محمد السادس في نفس الخطاب سالف الذكر بأن المغرب واع بأنه يدخل مرحلة لن تكون ممهدة على بساط احمر حيث قال "إنهم لا يريدون أن يفهموا، بأن قواعد التعامل تغيرت، وبأن دولنا قادرة على تدبير أمورها، واستثمار مواردها وطاقاتها، لصالح شعوبنا. لذا، تم تجنيد كل الوسائل الممكنة، الشرعية وغير الشرعية، وتوزيع الأدوار، واستعمال وسائل تأثير ضخمة، لتوريط المغرب، في مشاكل وخلافات مع بعض الدول. بل هناك تقارير تجاوزت كل الحدود. فبدل أن تدعو إلى دعم جهود المغرب، في توازن بين دول المنطقة، قدمت توصيات بعرقلة مسيرته التنموية، بدعوى أنها تخلق اختلالا بين البلدان المغاربية."
يتبع