يتردّد أنّه لمّا سُئِلَ الحجّاج وهو يومئذ على فراش الموت: كيف تجد نفسك؟! قال: أجدها بين القلّتين. إذ يُروى أنّه ملأ قلّتين بحبوب كان يلقيها حبّة بعد حبّة عند كلّ ختمة، بمعنى آخر أنّه كان كثير التّلاوة لكتاب الله عزّ وجلّ. والحجّاج هو الذي وطّد دعائم الأمن في ديار العراق وهو الذي أرسل الجيوش لتقاتل في سبيل الله، وهو الذي بعث محمّد بن القاسم الثّقفي لفتح بلاد السّند. ولكنّه مع ذلك عُرِف بطغيانه، فهو الطّاغية الغاشم الجبّار في الأرض، قاتِل المسلمين وعدوّ الصّالحين، مذِلّ الأحرار، فرعون العرب. وهو المسرف في الدّماء، المتمرّغ فيها(*). وهو إلى جانب ذلك، من أسّس لأخذ الأقارب رهائن حتّى يسلّم الهارب نفسه، تماما كما يفعل حجّاجو العصر حيث يأخذون الشّيخ الفاني والمرأة المحصن والبنت القاصر دون مراعاة لدين أو عرف أو قِيم أو أخلاق، كي يجبروا المطلوب على تسليم نفسه ويوردها المهالك رغم أنفه. وهو الذي ملأ السّجون بـ"المارقين" وصلب المخالفين وطارد "الخارجين" بالشّكل وبالعدد وبالطّرق التي قد تعطي لحكّامنا المتمسّكين باتّباع "السّلف الصّالح" من الأمّة من أمثال الحجّاج انطباعا يحدّثهم بالاستهانة بحجم الجرائم المقترفة منهم ومن أعوانهم في حقّ النّاس ممّن طمع في حقّ الحريّة والحياة الكريمة. ويوم سمع الحجّاج آهات الأمّ الصّابرة ذات النّطاقين ويوم بلغته مناجاة ابن عمر للبطل المصلوب أبي خبيب، ابن الزبير رضي الله عنه: [والله إن كنتَ ما علمتُ صوّاما قوّاما وَصُولا للرّحم، أما والله لأمّة أنت أشرّها لأمّة خير]؛ أمر بإنزاله عن جذعه... ويوم ذكّر الشّيخ الفاني الحجّاج بقوله تعالى:[مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ]، أجابه: أفحمتني وقطعت حجّتي، وأمر بإطلاق سراحه. فقد كان الحجّاج يعرف الله جلّ وعلا، لذلك كان ينتهي عن بعض المنكر فلا يقترفه ويتوقّف عند بعض الحدود فلا يتعدّاها، كما كان شأنه مع ذات النّطاقين الشّجاعة رضي الله عنها وهو يسمع منها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدّثنا: [أنّ في ثقيف كذّابا ومبيرا]، فأمّا الكذّاب فرأيناه وأمّا المبير فلا أخالك إلاّ إيّاه، حيث قام عنها ولم يراجعها وهو يومئذ "مالك الرّؤوس".
المناجاة تكثر هذه الأيّام والآهات تسدّ الآفاق محدّثة عمّا يتعرّض له رجال من خيرة أبناء الأمّة، مُنشدة أن يسود العفو والتّسامح بين الجميع، مناشدة أن تُقبر الضّغائن والأحقاد وينصرف الكلّ بدون تمييز إلى البناء المثمر وإلى العمل الصّالح غير أنّ حجّاجينا لا يسمعون ولا يستجيبون ولا يتوقّفون بل ولا يستحيون، مع أنّ أحدا منهم لم يجهّز قلّتين ولم يسيّر جيوشا فاتحة كما فعل الحجّاج.
على أنّ الأمر لا يتوقّف عندهم وإنّما يتعدّاهم إلى أنفسنا؛ إذ مَنْ منّا أقنع بقرآن أو بسلوك، كذلك الشّيخ؟! أو مَن منّا قلّد ذات النّطاقين فأخذ من مُصابراتها وشجاعتها وثباتها ما يشجّعه على قول كلمة حقّ عند سلطان جائر؟!
أخيرا، إذا كان الحجّاج قد مات وهو يكتوي بنار أضرمها بنفسه على نفسه بقتل الشّيخ الصّالح سعيد بن جبير، أفلا يتّعظ حجّاجونا من ذلك فيقتفوا آثار قاتل المائة - الذي ورد ذكره في الأثر - وهو يهاجر إلى الأرض الطّيّبة عازما على التّوبة النّصوح!.
المناجاة تكثر هذه الأيّام والآهات تسدّ الآفاق محدّثة عمّا يتعرّض له رجال من خيرة أبناء الأمّة، مُنشدة أن يسود العفو والتّسامح بين الجميع، مناشدة أن تُقبر الضّغائن والأحقاد وينصرف الكلّ بدون تمييز إلى البناء المثمر وإلى العمل الصّالح غير أنّ حجّاجينا لا يسمعون ولا يستجيبون ولا يتوقّفون بل ولا يستحيون، مع أنّ أحدا منهم لم يجهّز قلّتين ولم يسيّر جيوشا فاتحة كما فعل الحجّاج.
على أنّ الأمر لا يتوقّف عندهم وإنّما يتعدّاهم إلى أنفسنا؛ إذ مَنْ منّا أقنع بقرآن أو بسلوك، كذلك الشّيخ؟! أو مَن منّا قلّد ذات النّطاقين فأخذ من مُصابراتها وشجاعتها وثباتها ما يشجّعه على قول كلمة حقّ عند سلطان جائر؟!
أخيرا، إذا كان الحجّاج قد مات وهو يكتوي بنار أضرمها بنفسه على نفسه بقتل الشّيخ الصّالح سعيد بن جبير، أفلا يتّعظ حجّاجونا من ذلك فيقتفوا آثار قاتل المائة - الذي ورد ذكره في الأثر - وهو يهاجر إلى الأرض الطّيّبة عازما على التّوبة النّصوح!.
كُتِب يوم 11 يونيو 2004
---------
(*): أخذت الجملة الأخيرة بطولها بتصرّف، من كتيّب عالم وطاغية لشيخنا الفاضل يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى.
---------
(*): أخذت الجملة الأخيرة بطولها بتصرّف، من كتيّب عالم وطاغية لشيخنا الفاضل يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى.