بعد أن حكى الفنان بوشعيب ناجد الجديدي لجريدة "أنفاس بريس" في الحلقتين السابقتين من هذه السلسلة عن حقيقة سبب نزول كتابة نص أغنية (تْزَوَّجْ مَا قَالْهَا لِيَّا)، وكيف تمرد على موقف والده "الطّْرَابْشِي" بخصوص عشقه للموسيقي والغناء رغم المعاناة، وانقطاعه عن الدراسة، ورفضه بعض ورشات تعلم المهن والحرف، نغوص معه في الحلقة الثالثة بين دروب بدايات سيرة حكايته الفنية وكيف تمكن من تملك ناصية العزف والغناء والطرب، وصداقته مع عامل إقليم الجديدة آنذاك بفعل علو كعبه الفني رغم حداثة سنه.
"الطّْرَابْشِي" يكتشف موهبة ابنه بوشعيب على آلة العود الموسيقية والطربية
في مساء نفس اليوم بعد تحريره من الاعتقال من داخل الحمام البلدي ببيت والده، وإعلانه بقوة عن موقفه النهائي من الموسيقى والعزف والغناء، أمام والده الملقب بـ "الطَّرَابْشِي" وزوجته التي كانت تسانده في المضي قدما لتحقيق أحلامه الفنية، أحضر آلة العود للبيت من عند أحد أصدقائه الذي يكبره سنًّا إسمه (أبا إدريس) رحمه الله، وصعد للسطح وانطلق في عز مقطوعة الأطلال لكوكب الشرق (أم كلثوم).
استرق الأب السمع لنغمات آلة العود، وسحره عزف بوشعيب ناجد فصعد للسطح مهرولا وخاطبه والابتسامة على محياه قائلا: "أين ومتى تعلمت هذا العزف ولدي بوشعيب؟". في هذا السياق أشار الفنان بوشعيب الجديدي أنه كان يشتغل مع الجوق الموسيقي بمدينة الجديدة في الخفاء لمدة طويلة بعد أن تم استقطابه ضمن أفراد المجموعة الموسيقية من المدرسة. فكانت لحظة اكتشاف بداية مهارات العزف نقطة تحول حقيقية في مسار الطفل بوشعيب، بعد أن عبر والده عن إعجابه بجودة تعاطيه مع آلة العود الجميلة.
في محارب خلوته الفنية بوشعيب الجديدي يصنع مجده الموسيقي والطربي
هكذا بدأ الطفل بوشعيب يمارس هوايته الموسيقية في العلن ويتمرن مع أفراد المجموعة الموسيقية التي دمجه فيها الموسيقي أحمد البستاني، حيث كانت لقاءاتهم تتم بدار المواطن (جمعية خيرية) توجد قريبة من الحي، ثلاثة أيام في الأسبوع.
كانت لحظات التمرّن مع أفراد المجموعة الموسيقية فرصة مواتية وسانحة مهمة، فرغم صغر سنه كان الطفل بوشعيب ناجد الجديدي بعد الإنتهاء من حصص التمارين، هو من يحتفظ بجميع الآلات الموسيقية في بيت والده، بعد أن خضي بثقة المجموعة، بحكم أنه كان محبوبا لدى الجميع بفطنته الموسيقية. لذلك كان أفراد المجموعة يطلبون منه الاحتفاظ بالآلات الموسيقية إلى غاية موعدهم حيث يحضرها لدار المواطن من أجل التمارين.
رغم إحساساه بأنه يؤدي عدة خدمات تطوعية لفائدة الجوق ظل الطفل بوشعيب ناجد، صبورا ومواظبا وأمينا ومثابرا، ويفتخر كونه فردا مهما من أفراد جوق مدينة الجديدة الذي يتكون تقريبا من (16 فردا) أغلبهم يمارسون وظائف ومهن قارة ولكنهم فضلوا هواية الموسيقى والغناء. وأصبح بوشعيب يملك بدوره حقيبته الخاصة التي يضع فيها ناياته السّبعة التي يعزف عليها مع ذات الجوق الموسيقي، وفي نفس الوقت يحتفظ في البيت بالعديد من الآلات الموسيقية (آلات الْكَمَنْجَاتْ والْعُودْ) إلى حين وقت التمرين بدار المواطن.
في سياق متصل انقطع الطفل بوشعيب عن الدراسة بشكل نهائي، ولم ترقه ورشات المهن التي اختارها له أبوه كبديل عن الدراسة (نَجّار، جزّار، حلّاق..) لضمان مستقبله، ولم يعد هناك أي شنآن حاصل بينه وبين والده "الطّْرَابْشِي" الذي استسلم لرغبته الجامحة بعد عملية التمرد وتمكنه من فرض موقفه من هواية الموسيقى، وأضحت الآلات الموسيقية للجوق تحتل علانية جزء من أثاث صالون بيت أسرته.
في محراب الموسيقى... عصامية وموهبة ربانية
اقتنص الطفل بوشعيب فرصة احتفاظه بجميع الآلات الموسيقية بالبيت، وقرّر أن يتعلم العزف داخل محراب خلوته، وأخذ على عاتقه أن يتعامل معها بحب وعشق ويختبر أنامله وسفره بين مقاماتها دون علم أفراد المجموعة الموسيقية حيث يقول:
"كل ليلة كنت أختلي بنفسي وأخرج آلة العود من حقيبتها الخاصة وأستمر في العزف إلى أن أشبع رغبتي الجامحة، ثم أعيدها إلى الحقيبة بلطف وحذر، ونفس الشيء كان يحصل لي مع آلات الكمان التي أضعها على كتفي وتنطلق أناملي في العزف واكتشاف سحر نغماتها...كنت استبدل ألة الكمان بأخرى، وامتحن عزفي على كل الَكَمَنْجَاتْ برقة وعذوبة وأعيدها إلى حقائبها".
لم يمر على الشاب بوشعيب إلا ثلاثة أشهر في حضرة تلك الآلات الموسيقية حتى تملك العزف قلبه واستوطن وجدانه، حيث تحول إلى عازف ماهر على آلة الكمان بثقة كبيرة: "أصبحت طريقة عزفي على الكمان شبه إلى حد كبير، مستوى عزف رئيس جوق مدينة الجديدة الفنان أحمد البستاني الملقب بـ (حميدو) والذي كان حقيقة أستاذا عازفا ماهرا، رفقة الفنان الرائع محمد برشيد".
بداية الشهرة المحلية...أو الحاجة أم الاختراع
يتحدث الفنان بوشعيب الجديدي عن محل والده الخاص ببيع الأسطوانات والأشرطة الموسيقية وآلات التسجيل التي ساعدته هو وإخوته الأصغر منه (مصطفى وخالد ناجد) على حفظ الأغاني والإرتواء من ينبوع كل الأنماط الموسيقية خصوصا أن كلمات نصوص أغلب الأغاني الطربية الشرقية كانت مدوّنة على ظهر الغلاف الحافظ للأسطوانات الموسيقية، وكانت عملية استنساخها على الأوراق وحفظها عن ظهر قلب سهلة حسب قوله: "بعد تمكّني من الغوص بجدية في بحر الفن والموسيقى، أحضر الوالد آلة التسجيل ضخمة من محله التجاري، وطلب مني عزف وغناء مقطوعة أم كلثوم (الأطلال) بآلة العود، وقام بتسجيلها واستمع لها مرات عديدة فأقر لي بعلو كعبي الطّربي في العزف والأداء".
هكذا اختار والده "الطّْرَابْشِي" أن يستنسخ العديد من الأشرطة الغنائية التي سجّلها بصوت ابنه الشاب الفنان بوشعيب الجديدي ناجد الذي اختار الفن، كأول تجربة غنائية بعد أن وثق في قدرته الخارقة على مستوى التعامل مع الآلة الموسيقية، وقام بتوزيع العديد من الأشرطة الموسيقية والغنائية على أصدقائه من سائقي تاكسيات الأجرة بمدينة الجديدة، وكان يفتخر بأن محتوياتها كلها من إبداع أبنه الموسيقي والمغني بوشعيب.
في هذه الفترة تحوز الشاب بوشعيب على رخصة الثقة لسياقة تاكسي الأجرة الصغير بمدينة الجديدة الذي كان في ملكية والده، وأصبح يتناوب مع أبيه في السياقة مدة عشرة أشهر متتالية. وفي هذا السياق كتبنا ما ورد على لسانه في الحلقة الأولى عن مسار حياته الفنية وعن أسباب نزول كتابة وتلحين قطعة الأغنية الاجتماعية الشعبية (تْزَوَّجْ مَا قَالْهَا لِيَّا).
الظاهرة الموسيقية... يتألق موسيقيا رفقة جوق مدينة الجديدة
منعطف مهم في مسار الفنان بوشعيب ناجد "الظاهرة الموسيقية والغنائية" حيث أصبح يخرج رفقة الجوق الموسيقي لإقامة بعض الحفلات والمناسبات الفنية وكان شديد الحرص على تحقيق الوعد الذي قطعه مع نفسه والمرتبط بمستقبل كسب "الْعَيْشِ" من مداخيل الموسيقى والغناء، والتفضل بسخاء بتخصيص جزء منها لوالده الذي كان يتردد في تسلمها في بداية المشوار.
في نفس السياق، لم يتردد الفنان بوشعيب الجديدي من استحضار فترة إحياء بعض المنسابات الوطنية في بيت عامل إقليم الجديدي مولاي العربي الوزاني: "كنت أشارك مع الجوق الموسيقي بمدينة الجديدة بين الفينة والأخرى في إحياء بعض المناسبات الفنية ببيت عامل الإقليم، سواء كنت وحدي عازفا على آلة العود أو مع المجموعة الموسيقية".
وأضاف موضحا بقوله: "كان والدي يشجعني على أن أفاتح عامل الإقليم في مواضيع شخصية مثل الحصول على ﯕريمة تاكسي صغير، وكان رحمه الله يقول لي أنت أعز واحد في الموسيقيين على العامل مولاي العربي الوزاني. فلماذا لا تفاتحه في طلب قضاء أغراضك الشخصية؟". على اعتبار أن العامل كان شخصية وازنة وله سلطة القرار، لكنني كنت أتحاشى ذلك، يوضح الفنان بوشعيب الجديدي الذي كان يفرق بين "الصداقة والمسؤولية، ولا يمكن له أن يقوم بذلك نهائيا" حسب تعبيره.
تحقيق حلم الحصول على جوازات السفر للعمل بالخارج
يحكي الفنان بوشعيب الجديدي ناجد عن حدث مهم وأساسي طبع مساره الفني حين تدشين فندق دكالة بمدينة الجديدة في عهد عامل الإقليم الشريف مولاي العربي الوزاني، رفقة وزير السياحة آنذاك، حيث كان الجوق الموسيقي للمدينة برآسة الفنان بوشعيب هو من سيقدم الحفل الفني. حيث كان بوشعيب ناجد بمعية خمسة أفراد من المجموعة الموسيقية قد قرروا اختيار فرصة فتح النقاش مع عامل الإقليم حول ملف الحصول على جوازات السفر من أجل العمل بالخارج. وكانت أحسن فرصة مواتية تتزامن مع حفل افتتاح فندق دكالة.
بين فقرات الحفل الفني شجع أفراد الجوق الموسيقي الشّاب الفنان بوشعيب الجديدي للحديث مع عامل الإقليم الذي كان يجلس بجانبه وزير السياحة وعدة مدعوين حيث قال للجريدة "توجهت مباشرة عند عامل الإقليم، وجلسة أمام شخصه القرفصاء، وتبادلنا أطراف الحديث عن أعجابه بالفقرات الموسيقية التي قدمناها أمام الحضور، وطريقة العزف والأداء الجميل، وفتاحته أيضا في أمر جوازات السفر".
يقول بوشعيب ناجد في هذا الصدد مخاطبا العامل: "بْغَيْنَا بَاسْبُّورَاتْ نَمْشِيوْ حَنَا خَمْسَةْ لِلْخَارِجْ". فكان رد العامل مبتسما بقوله: "إِيوَا مَلِّي تَمْشِيوْ نْتُومْا لِلْخَارِجْ شَكُونْ يَبْقَى فِي الجْدِيدَةْ. فِينْ هُمْ الْمُوسِقِيِّينْ تَاعْ الَمْدِينَةْ؟". وردّ الفنان بوشعيب حاسما بقوله لعامل إقليم الجديدة "لَنْ نَمْكُثْ كَثِيرًا بِالْخَارِجْ سَنَعُودَ لِلْجَدِيدَةْ فِي أَقْرَبْ فُرْصَةْ".
ورغم صعوبة الحصول على جوازات السفر يومئذ، فقد قرر العامل تلبية طلب الفنان بوشعيب الجديدي ناجد، ومنحت جوازات السفر لخمسة من أفراد الجوق الموسيقي حيث حددت مدة السفر في سنة واحدة بدل خمسة سنوات.