الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد العداسي: الرزية التونسية: استبعاد الثلّة الأصلح من المترشّحين للرئاسة (1)

عبد الحميد العداسي: الرزية التونسية: استبعاد الثلّة الأصلح من المترشّحين  للرئاسة (1) عبد الحميد العداسي
كنت تونسيّا يوم هزّتني فَرْحةٌ كادت تصنّفُني هائما في الأودية، كأولئك الذين قال ﷻ فيهم: {وَالشُّعَرَآءُ يَتْبَعُهُمُ اُ۬لْغَاوُۥنَۖ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِے كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَۖ} (الشّعراء: 223– 225)، فقد خرجت في لحظة سيطرت فيها العاطفة على الإدراك أردّد بغباءٍ لم تشهده تركيبتي: "سعدك يا تونس بسعيّد" وهراءً آخرَ أنسانيه الله تعالى برحمتِه. 

كان عدد المترشّحين للرّئاسة في انتخابات 2019، كبيرا قد تجاوز خمسةً وعشرين مترشّحا، وكان من بينهم مَن هو جدير برئاسة البلاد، ممّن عُرفوا بنظافتهم أو جاذبيّتهم وقدرتهم على التّأثير أو مروءتهم أو بهذه الخصال جميعا، وكنت أرى أنّ منهم أربعةً أو خمسةً ليس من بينهم الذي قلتُ فيه شعرا قد تَسعدُ تونسُ برئاستهم وتفتخِر... انتخبتُ في الجولة الأولى واحدًا منهم قدّمتُه لمصلحة البلاد على أحبّ المترشّحين لديّ. 
انتخبت الدّكتورَ محمّد منصف المرزوقي الذي استبعده - أسفي على تونس- غباءُ كثيرٍ من التّونسيّين ممّن تعلّقوا بالصّورة أو تأثّروا بحصاد آذانهم غير الواعية. 

فُجِعتْ البلاد باستبعاد الثلّة الأصلح من المترشّحين، وكان لا بدّ من اختيار الأقلّ سوءًا ممّن أفرزتهم الأهواء المُعَرّضة للتّقلّب والتّغيّر، فكنت في الدّور الثّاني والأخير ضمن نسبة (75 %) من المنتخِبين، نختـار الوافد الجديد مجهول "النّسب"،سعيّد!

كان كما يقول التّونسيّــون "عاقــلا" (أليفا، وديعا) حدّ الإشفاق عليه، وكان يوم التّنصيب مبهورا بمشهد الحضور تحت قبّة البرلمان، معجبا ربّما بتنوّعهم وعدم تخلّف أيّ صنف منهم، مشدودًا إلى لغة الأستاذ عبدالفتّاح مورو، نائب رئيس البرلمان وقتها وأحد المرشّحين البارزين للرّئاسة الذي خذله عدمُ وعيِ التّونسيّين وعدمُ تحرّرهم الفكريّ وعدمُ تألّقهم القِيَميّ، وقد أسَال الله ﷻ على لسانه لغة رقراقة سامقة كما هي دائما، عذبةً كما عرضها هو بما اجتهد وبما جوّد، ثمّ كانت خطواتُه الأولى إلى القصر، بعد القسم ، متلعثمةً منجمسةً مع عَطَبٍ بارز في بدنه مؤثّرٍ على مِشيته.

ابتدأ أيّامه الأولى متأرجحا بين مقهى ومخبزة يذكّرانِه بالمنبت والأصل، وقصر انطلق بالإيغال في منعطفاته وزواياه يهيّؤه شيئا فشيئا كي يتنكّر للمنبت وينسى بالتّنكّر الأصـلَ.

ثمّ ألزمه "السّيستام" بالتّخلّي عن العادات القديمة وأقنعه بأنّ نسيانَها هو أصل الأصل. أراد في البداية ولغاية في نفسه أن يبرِز تعلّقه بعمر الفاروق رضي الله عنه، فكان صغيرا متواضعا أمام الوفود الشّبابيّة المنبتّة الزّائرة، حتّى هَمَّ - لحظة طغيان مشاعر التّلبيس على النّاس أو لحظة حضور قيمته فيه - بتقبيل رجليْ الشّابّ الذي أكل الحذاء المخرَّقُ جلدَتَهما، نتيجة سيره مئات الكيلومترات كما زعموا فداء للرّئيس "خادِمِ" الشّعب التّائق للحرّية والانعتاق والكرامة. 

استنهض المشهدُ وغيرُه من المشاهدِ "البدويّةِ" الدّخيلةِ على القصر حفيظةَ "حرّاسِ" القصر وكهنته، فتدخّلوا دفاعا عن "الشّرف" يمنعون كلّ ما لا يليق عندهم بالقصر. 
بَــــــدَا الرّئيــس بعد ذلك مكلوءًا بمديرةِ ديوانٍ حريـصةٍ، أكّدت الأيّام أنّها عينٌ على تونس لفائدة المحتلّ في القصر...

لم أكن يوما مطمئنّا للمستشارين الذين اختارهم الرّئيس لمساعدته على إدارة شؤون البلاد، فقد فُقِد في سمتهم ومظاهرهم وسلوكهم ما يؤكّد انتماءهم للبلاد التّونسيّة المسلمة. لقد كان الأسوياء فيهم قلّة، وكانت القلّة على بصيرة لمّا بادروا بالانسحـاب مستقيلين، يؤكّدون وجود مناخ فاسد غير خادم لمصالح البلاد. 

كان الرّئـــــــــــيس صَمــــــوتا لا يتكلّم إلّا قليلا، وكــــــــان قليلُ كــــــلامِه مبهمًــــــــا يصنّفه أحد الذين قسّموا أهلَ البلادِ حسَب قناعاتِهم وأفكارهم وسعَوْا مجرمين إلى التّفتين بينهم، فما كان رئيسا لكلّ التّونسيّين كما تفرض مهمّة الرّئاسة، وما ارتقى حرصُه على مصلحة البلاد إلى مستوى حرصه على إنفاذ أفكاره ومصالحه التي وجدت التّمكين لها في صفّ أعداء البلاد. 

لقد كان البرلمان المنتخَبُ يشهد كثيرا من الحراك السّلبي غير اللّائق، المترجمِ لعدم نجاح الثّورة في تحصين نفسِها وعدم تمكّنها من تنقية البلادِ مِنْ مجرمين أثقلوا طويلا حِملَها، أولئك الذين اجتهدوا في العمل على شدّها إلى الخلف وإلصاقها بالأرض حذر الإقلاع، منفّذين بخنوع منقطع النّظير أجنداتٍ عادى أصحابُها الإسلامَ والنَّفَسَ الوطنيّ التّحرّريّ، مستعينين بقانون انتخابيّ اعتمد بطريقة خبيثة فكرة البواقي، ومستفيدين من سلوك "شعب" آثر القعـود والتّحديث ببركات دكتاتوريّة اعتمدت الظّلم والفسـاد لاستمرارها. 

كان رفضُ الأغلبيّة وتململها في البرلمان يُقابَل بعدم اكتراث الرّئيس الهادم، فقد خنس رغم ما تفرضه عليه مهمّته دون بذل الوسع... كان الفصل فصل كورونا، وكان إزهارُها خلال فصلها مرهقا للنّاس وللبلاد، غير أنّ الرّئيس لم يكترث لذلك، ولم يسع إلى توفير الأمن الصّحّيّ بجلب اللّقاح ضدّ انتشار وبائها، فلمّا تعقّدت الأمور وازدادت الممرّات ضيقا، بـــــــــادر سيادته بالحديث عن فساد طبقة سياسيّة استثنى منها نفسَه، وقد اتّهمها بزعمه الأفّاك أنّها استمرأت هلاك التّونسيّين حتّى رضيت لهم الفناء. 

لقد قدّم نفسَه كمـــــــــــا سوّلت لــــه نفسُـه المنقذ الأوحد، فانطلى ذلك على كثير من  التّونسيّين البُسطاء، وخوّل له حشدُه الشّعبيّ النّجاح في تدويخ العامّة، فانطلق دون مراعاةِ جهود التّونسيّين المخلصين يهدم كلّ ما بُني خلال سنواتٍ عديدة. 

تمادى في اللؤم فسفلت المواقف حتّى شكّك في نزاهة الانتخابات وفي حياد اللّجنة القائمة عليها. نسِي أنّها بالحياد والشّفافيّة والنّزاهة قد أعلنته فائزا فنصّبه البرلمان لسان الشّعب التّونسيّ تطبيقا لدستور البلاد واعترافا بنتائج الانتخابات رئيسا للبلاد. عادى رئيسها حتّى هدمها وأعاد بناءها تابعة له مؤتمرة بأوامره لا ثقة للنّاس فيها ولا اعتبار للنّتائج التي تُعلنها. 

أعلن يوم 25 جويلية 2021 اللّجوء إلى تنفيذ ما يقتضيه الاستثناء المنصوص عليه في الفصل 80 من الدّستور، فوجد الدّعم ممّن يزعمون التّخصّص في القانون الدّستوريّ، وقد آزروه متخلّين عن مروءةٍ حسِب النّاس أنّهم من أهلها، وتعلّقوا بمخلوق حسِبوا أنّه آخذٌ بزمام الأمور. 

كانوا، على غير ما دأب عليه الرّجال، يطمعون في حُظوة لديه فسوّقوا للعامّة التّبّع أنّ تخصّصه وقدرته على الاستنباط يُغنيانه عن المحكمة الدّستوريّة، التي لا تَدخلُ البلاد في الاستثناء الذي يتحدّث عنه الفصل 80 ، إلّا بعد إعلام رئيسها.
 
يتبع