الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: الإنسان والطبيعة تعايش ينقصه التناسق

أحمد الحطاب: الإنسان والطبيعة تعايش ينقصه التناسق أحمد الحطاب
العنوان أسفله : "الإنسانُ والطبيعة، تعايشٌ ينقصُه التَّناسُق" هو عنوان مقالٍ طويلٍ تطرَّقتُ فيه لعلاقة الإنسان بالطبيعة ثم بما سماه هذا الإنسانُ بالبيئة. ونظرا لطول المقال، قسَّمتُه إلى أربعة أجزاء. بصفة عامة، أبيِّن في هذا المقال كيف تطوَّرت علاقاتُ الإنسان بالطبيعة ثم بالبيئة إلى أن أصبحت هذه العلاقات وَبالاً ليس فقط على الطبيعة بمختلف مكوِّناتها الحية و غير الحية ولكن كذلك وَبَالاً و تهديداً لاستمرار الحياة بما فيها حياةُ الإنسان نفسه.   
الإنسانُ والطبيعة، تعايشٌ ينقصُه التَّناسُق :
الجزء الأول  الطبيعة بدون الإنسان عالمُ الأحياء، قبل ظهور الإنسانِ على وجه الأرض، عرف تطوُّراتٍ مكَّنته من بلوغ مستوى مهم من النمو و التَّنوُّع. وحتى العالمُ المادي، أي غير الحي، مرَّ، هو الآخر، من تحوُّلاتٍ ضخمة (تراجع البحر، غزوه للأراضي البرية، العصور الجليدية، الكوارث، الاحترار، تَزَحزُح القارات، سوء أحوال الطقس، تكوين الجبال والتَّضاريس، النشاط البركاني…) تكيَّفت أو لم تتكيَّف معها الكائنات الحية.
كل ما كان ضروريا لاستمرار الحياة كان موجوداً (التَّمثيل الضوئي photosynthèse، تنفُّس، اختمار، تناسُل/تكاثُر، دورة الماء، دورات المادة، تفاعلات كيميائية، احتراق، تفكُّك، تركيب، طاقة، علاقات غذائية، طفرات…). الطبيعة لم تنتظر الإنسانَ لتتطوَّر، لتتحوَّل، لتُعبِّرَ عن وجودِها، لتتجدَّد… والدليلُ على ذلك، كثيرةٌ و متنوِّعة هي الأنواع الحية التي تعاقبت على وجه الأرض منذ ملايين السنين. منها أنواع  انقرضت، كما يوضِّح ذلك علمُ الحفريات paléontologie، ومنها أنواع جديدة ظهرت.
الطبيعة، بدون الإنسان، كان لها ما يكفي من القُدرة لتجاوز كل التَّقلُّبات و التَّحوُّلات التي، كان من الممكن أن تؤدّْيَ إلى اختفاء الحياة. غير أن الحياةَ لا تزال قائمةً. هل هذا سِرٌّ من أسرار الطبيعة أم هناك تفسير يفرضه المنطقُ؟
التَّفسيرُ المنطقي بيَّنَه أو وضَّحه الِعِلمُ، وبصفة خاصة، بيَّنه عِلمُ البيئة écologie. ما بيَّته هذا الأخيرُ هو أن الطبيعةَ، كما سبق أن أشرتُ لذلك في مقالةٍ سابقة، قادرة على تنظيم نفسِها بنفسِها من خلال خاصِّية التَّنظيم الذاتي autorégulation للحِفاظ على توازُنِها. وبعبارة أخرى، الطبيعةُ قادرةٌ على امتصاصِ الاختلالات ذات المصدر الطبيعي لتُعيدَ هذا التَّوازن. فإذا تمكَّنت الطبيعةُ من الحِفاظ على التَّوازن لتستمرَّ الحياةُ، فهذا معناه أن التَّنظيمَ الذاتي، رغم ما حدث من تقلُّبات خلال الفترات التي سبقت ظهورَ الإنسان على سطح الأرض، اشتغل بكيفية جيِّدة.
ظهورُ الإنسان في الطبيعة
مجيء الإنسان فوق الأرض يُعتبَرُ، في الحقيقة، إدخالٌ لنوعٍ حي جديد في الطبيعة introduction d'une nouvelle espèce vivante dans la nature نوعٌ حي يختلف عن الكائنات الحية الأخرى بقدرته على التَّفكير والصُّنعِ والاختراع والإنشاء و التَّحويل… بفضل هذه القدرة، يتعلَّق الأمرُ، من أول وهلةٍ، بنوع حي الذي، من أجل سدِّ مختلف حاجياتِه، يستطيع أن يُصمِّمَ الأعمال ويُنفِّذها داخلَ الوسط الذي يعيش فيه. مع مرور الوقت، تفاقمت هذه الحاجيات من جراء النمو الديمغرافي وتشكيل المجتمعات، الشيء الذي كان ولا يزال سببا في ممارسة ضغطٍ كبير على الموارد الطبيعية، المادية منها والحية.
غير أن ما تجب الإشارةُ إليه هو أن الإنسانَ، عندما يمارس ضغطاً على الطبيعة، فإنه لا يمارس هذا الضغطَ فقط لسدِّ حاجياته البيولوجية والاجتماعية. بل يمكن للإنسانِ أن يتعاملَ مع الطبيعة مدفوعا بالإغراء، بأهوائه، بشغفه، برغباته، بتعطُّشه للمعرفة، للسيطرة، للامتلاك… أو بحثا عن المجد والهيمنة والسلطة والتَّقدير والسمعة…
و كيفما كان الحال، سواءً تعلَّق الأمرُ بسدِّ الحاجات أو بالإغراء…، كل الأعمال التي يقوم بها الإنسانُ داخلَ الطبيعة، لها وقعٌ إيجابي أو سلبي على عالم الأحياء بما في ذلك الإنسان والعالم المادي. هذه المجموعات الثلاثة (عالم الأحياء، الإنسان بثقافتِه واقتصاده وتكنولوجياتِه وحضارتِه وتربيتِه… والعالم المادي) تشكِّل ما يُسمى اليوم البيئة environnement. هذه الأخيرة، منذ حلول ما سُمِّيَ بالثورة الصناعية على الخصوص، كانت عُرضةً لاختلالات ضخمة من مصدر بشري.
لكن، رغم هذه الاختلالات، لا تزال الحياةُ قائمةً إلى يومنا هذا. فإذا استطاعت الطبيعةُ الحِفاظَ على توازنِها لضمان استمرار الحياة مستفيدةً من ظاهرة التَّنظيم الذاتي، فإن البيئةَ، من جراء تدخُّلات الإنسان اللامحدودة، أصبح توازنها مختلا، وفي غالب الأحيان، بكيفيةٍ لا رِجعةَ فيها.  وهذا معناه أن التَّنظيم الذاتي لم يعُد يشتغل بكيفيةٍ طبيعة. بكل بساطةٍ، حينما حلَّ الإنسانُ بالطبيعة، أدخلَ فيها اختلالات كانت ولا تزال سببا في تصدُّعِ التَّنظيم الذاتي.