الثلاثاء 23 إبريل 2024
فن وثقافة

الجوهري: "كالا" (Qala) ليس فيلما وإنما تحفة

الجوهري: "كالا" (Qala) ليس فيلما وإنما تحفة عبد الاله الجوهري
لم أكن أتوقع أن أشاهد فيلما بهذه الروعة وأنا ابحث عن فيلم لكي يساعدني على مغالبة النوم الذي جفاني ليلة الخميس الجمعة، والساعة تشير وقتها للواحدة صباحا، فوقعت هكذا صدفة على فيلم "كالا"، إنتاج سنة 2022، للمخرجة الهندية انفيتا دات كوبتا (Anveeta Dutt Gupta)، لأجد نفسي متورطا تورطا جميلا في متابعة شريط أقل ما يقال عنه تحفة من تحف سينما شبه القارة الهندية، فيلم بنغالي وفي لإنجازات رواد السينما البنغالية، خاصة منهم كاطاك ومارينال سين وأدور غوبالا كريشنان، بل يعيد تركيب عوالم المخرج العبقري ساتياجيت راي ورائعته "صالون الموسيقى"، لكن برؤية فنية حداثية تغالب الشوق والكثير من الوفاء والحنين لسينما الكبار المصنوعة بحرفية جد عالية.
"كالا" حكاية عن الحب والكراهية وصراع الفن والموهبة الربانية التي وجدت عوائق عائلية ونفسية في أن تخرج للوجود، فتصر على اثباتها ولو ببيع الروح للشيطان، الشيطان الذي يحاصرنا في الكثير من مشاهد الشريطن قابع في الخلفيات أو عند الحواشي والديكورات المصنوعة بوعي خلاق، موهبة فتاة من أسرة عريقة مجيدة في دنيا الموسيقى والغناء، لكن تجد نفسها ضحية كراهية غير مفهومة من أم، لأنها كانت تحملها بشكل غير مباشر مسؤولة موت أخيها التوأم وهي في البطن قبل خروجها للدنيا، رضيع ذكر كانت تمني النفس أن يحمل مشعل الأب، المغني الشهير الذي رحل عن الدنيا وهي حامل بتوأم. ولتتصاعد الأحداث الغارقة في السوداوية لكن مغلفة بقطع موسيقية كلاسيكية هندية بمرجعيات سنوات الثلاثينات من القرن الماضي.
الفيلم جاء حاملا لقهر الزمن وانفصال مجتمع مخملي عن المجتمع الهندي خلال سنوات الاستعمار واشتداد المواجهة مع المستعمر، مجتمع الفن والضرب من تحت الحزام في صراع وجود بين الأم الكارهة للإبنة والباحثة عن صوت يعوضها عن موت رضيع كان يمكن أن يكون في مستوى الزوج الراحل، وإبنة تحس أنها موهوبة لكن كل شيء يقف في طريقها وطريق موهبتها، لتلجأ إلى أفعال شيطانية، تبدأ بقتل الشاب العبقري في عالم الغناء بطريقة لا تخطر على بال، الشاب الذي تبنته أمها ومنحته الحب الذي لم تمنحه لإبنتها، إلى حد أننا نتساءل ما الرابطة التي تجمعها بهذا الشاب، كما تسقط في حضن الرذيلة ومسايرة نزوات ملحن موسيقى أفلام جد شهير، يساعدها للوصول إلى قمة الشهرة بفوزها بالأسطوانة الماسية، قمة لم تسعدها بقدر ما فتحت أبواب جهنم في وجهها، من خلال حياة وحيدة بئيسة وعزلة قاتلة، وذكريات مريرة، وشبح المقتول الذي يطاردها ليل نهار، لتغرق في عوالم الهلوسة وتناول العقاقير المهدئة، هذا قبل أن تضع حدا لحياتها شنقا وتموت منتحرة كما مات العديد من الكبار الذين وجدوا الطريق للشهرة لكن لم يجدوا سبيلا للسعادة. 
"كالا" لا يسمح فق للمتفرج الاستمتاع بمشاهد بصرية مصنوعة بحرفية عبقرية خاصة من جهة اختيار فضاءات التصوير، منزل الأسرة الفخم المتواجد في منطقة جبيلية محصورة من كل الجهات بالثلج وبرد قاتل يتسلل إلى داخل الأروقة فيحقق تناغما قاتلا مع المشاعر الباردة السائدة رغم الإحتفاء في كل لحظة بأجمل ما في الكون فن الموسيقى والغناء بل يقدم تناغما مذهلا للألوان التي تجعلك تتساءل، وأنت تتابع مشاهد الشريط، كيف استطاعت المخرجة ومعها من أشرف على تصحيح وضبط الألوان في الانتقال بنا من لوحات بصرية تتوحد مع أجواء كل مشهد بكل هذه الحرفية المذهلة، كما أن تقاطعات الضوء والظلمة تضفي على المواقف الكثير الكثير من فيض الأحزان الطاغية، وتجرك لدنيا السينما التعبيرية الألمانية، لكن دون السقوط في المسخ والتشوهات الخارجية للشخصيات لأن الشخصيات تبدو كلها سوية في مظهرها وأناقتها واحتفائها بالأناقة، لكنها في أعماقها تحمل ندوبا وتشوهات قاتلة قادرة على الفتك بأجمل ما في الإنسان براءته وحبه للحياة . 
حقا السينما الهندية سينما المفاجآت الجميلة والطاقات المتجددة والروائع الفيلمية التي يندر أن تجدها في السينمات العالمية لأنها سينما متفردة من حيث المزاوجة بين المشاعر الإنسانية النبيلة والفرجة االسينمائية العميقة والنغمة الطالعة من غياهب التراث الديني الهندي الأصيل.
خاتمة: أعتقد أن المخرجة أنفيتا دات غوبتا، ومن خلال هذا الفيلم الروائي الطويل الثاني في مسارها السينمائي كمخرجة، ستجعلنا نتعلق أكثر بمنجزات السينما الهندية المستقلة، وستمد أكثر فأكثر جسور المحبة نحونا، الجسور التي مدتها من قبل مخرجة فيلم "سلام بومباي" ميرا ناير، جسور تقودنا إلى تراث يصعب تلخيصه في فيلم أو مجموعة أفلام، بل لا بد من العودة إلى الجذور وقراءة ليل نهار ما أنجزه حكماء وفلاسفة كبار بدءا من Vâtsyâyana صاحب المؤلف الخالد "الكاماسوترا" وصولا ل Tagore ورائعته الشعرية "جينتنجالي" أو"التقدمة الغنائية" وروايته "البيت والعالم"....