ثقافة "تَامَغْرِبِيتْ" هي عمق بداوتنا و منبع حياتنا
عرف المجتمع المغربي المتشبّع بثقافته الرعوية مسألة "الاقتصاد التضامني" منذ زمن طويل، بحكم احتياجات الأسرة البدوية في الدوار والقبيلة إلى العديد من الوسائل التقليدية والشعبية التي تتطلبها الحياة المعيشية على جميع المستويات، على اعتبار أن الحاجة هي أم الإختراع، بدأ من توفير الأفرشة والأغطية وأواني الطبخ والألبسة ووسائل التزيين والتجميل والنظافة، فضلا عن التداوي بالأعشاب، وكانت المرأة هي الركيزة الأساسية ومحور هذا العمل الشاق المتعب، الذي أبدعت فيه أحسن حاجيات ومستلزمات أفراد الأسرة والمجتمع.
بالمقابل تحمّل الرجل "مُولْ اَلْخَيْمَةْ" صناعة آليات ووسائل أخرى تقليدية تساعد على مواجهة الحياة والاشتغال يوميا من أجل تعزيز منتوجات طبيعية وفلاحية انطلاقا من المحاصيل الزراعية في ارتباط وثيق بالأفراح والأعراس والمناسبات والأعياد الدينية والوطنية من خلال منتوج "الزْرِيبَةْ" و "اَلْكُورِي" و "اَلْـﯕَاعَةْ" و "اَلْمَطْمُورَةْ" و "اَلْبِيرْ" و "اَلْعَيْنَ" و "اَلْمَطْفِيَّةْ" و "اَلْمَرْسْ"....
ولم يبخل المجتمع المغربي في تطوير إبداع هندسة ومعمار غرف البيت/اَلْخَيْمَةْ بوسائل تقليدية تعتمد على قوة الجسد والعضلات، خُصّص منها جزء مهم لبناء وتأثيث "لَمْسِيَّدْ" وتشييد الصَّوْمَعَةْ، و "التّازُوطَا" بالطوب والحجر والطين، واستعمال الخشب والقصب والدوم والجلد كمواد أولية بالاعتماد على الطبيعية التي سخر الإنسان المغربي عطائها لهذا الغرض النبيل من أجل تعليم الأبناء في القبيلة وحمايتهم من تقلبات الطقس والمناخ.
"تَامَغْرِبِيتْ" يعكسها معجمنا ولسان حالنا
تقديم وترويج هذه المنتوجات التقليدية كان المواطن والمواطنة المغربية يعتمد فيها على الأسواق الأسبوعية المحيطة بمجاله الجغرافي، كمحطة للرواج التجاري والتي كانت تزخر دائما بمرافق خصصت للتبضع والبيع والشراء واقتناء تلك المنتوجات الرائعة ذات الجودة العالية، و التي لا يمكن تصنيفها سوى في خانة "الاقتصاد التضامني".
بالرجوع إلى معجم قاموس لغتنا الدارجة (تَامَغْرِبِيتْ)، نجد هناك الكثير من المفردات والمصطلحات الشعبية الدّالة على ثقافة التضامن والتكافل والعيش المشترك والبساطة والتواضع وسط المجتمع، والتي تحيل على ذاكرة هذا المنجز العظيم (الاقتصاد التضامني) الذي بدأ يتلاشى وينقرض بفعل غزوات تغول "العولمة" واختراق ثقافة المجتمع المغربي بالتكنولوجيا والتقنية (الحضارة الغربية).
من مفردات هذه ذاكرة تَامَغْرِبِيتْ نستحضر على سبيل المثال لا الحصر: "اَلتّْوِيزَةْ" و "اَلنُّوبَةْ" و "اَلَّسارَحْ" و "عَرْسْ اَلْقُرْآنْ" و "إِيسْلَانْ" و "تَنْقِيَّةْ اَلْقَمْحْ" و "لَمْسِيَّدْ" و "لَفْقِيهْ" و "لَارْبْعِيَّةْ" و "اَلُّلوحَةْ واَلْكُرَّاكْ" و "اَلصَّلْصَالْ و لَقْلُمْ والدْوَايَةْ" و "تِيغَشْتِ" و "اَلْمَرْسْ" و "جَنْبْ اَلْوَادْ" و "اَلضَّايَةْ" و "الزْنَيْـﯕَةْ" و "اَلْـﯕَاعَةْ" و "اَلدَّرْسَةْ" و "السَّـﯕْنِي" و "اَلْمَنْجَلْ" و "اَلْمَدْرَةْ" و "اَلْعَتْلَةْ" و "اَلْمَحْرَاثْ" و "اَلْمَطْمُورَةْ" و "اَلْمَطْفِيَّةْ" و "لَبْحَيْرَةْ" و "اَلجَّلَّابَةْ" و "اَلْهَدُّونْ" و "اَلْخَيْدُوسْ" و "التْشَامِيرْ و اَلْفَرَاجِيَّةْ" و "اَلْحَايْكْ و اَلْحَرْشِيشْ" و "اَلْمَنْسَجْ".
"تَامَغْرِبِيتْ" نوستالجيا كنز تراثنا البدوي العميق
كانت نساء الدوار يَتَحَيَّنَ فرصة التناوب من أجل أداء عمل جماعي لفائدة إحداهن، و تنعكس نتائج "اَلشْغُلْ" على بيت/خَيْمَةْ "مُولْ اَلدَّارْ" وأفراد الأسرة بكاملها. فيتم اختيار التوقيت المناسب لإنجاز "العمل التضامني" الموسوم بالشُّغْلْ الجماعي سواء تعلق الأمر بالإستعداد لمناسبة عرس الختان أو الزواج أو موسم سنوي معين، بالإضافة إلى توفير منتوج مختبر اَلْمَنْسَجْ التقليدي لصناعة أغطية وأفرشة وألبسة، مثل منتوج "اَلْحَيْكْ" و "اَلْحَرْشِيشْ" و "بُوشَرْوِيطْ" و "اَلجَّلَّابَةْ" و "اَلسَّلْهَامْ" لتقديمهم كهدايا خلال مناسبات الأفراح والمواسم أو عرضهم للبيع بالسوق الأسبوعي لدعم اقتصاد العائلة.
"اَلْمَنْجَجْ" في ثقافنا الشعبية يعكس نموذج "تَامَغْرِبِيتْ"
لإقامة "اَلْمَنْجَجْ" المغربي، لَابُدْ على المرأة القرية أن تكون قد جمعت محصول "الدْزَازَةْ" بعد دَزْ/قَصْ صوف رؤوس الأغنام خلال فصل الصيف. ونظرا لأهمية رمزية هذا الحدث الإقتصادي والإجتماعي فقد كانت تتخلّله طقوس جميلة يمتزج فيها الفرح بالغناء والرقص والنّظم، وتقديم الأطعمة وكؤوس الشاي لكل الضيوف والزوار، احتفالا بمنتوج "اَلزْرِيبَةْ" السنوي الذي سيتحول بعد سلسلة من الأشغال اليدوية إلى منتوج ينتفع به الإنسان.
النساء وحدهنّ يقُمن بغسل الصّوف وتنظيفه بشكل جماعي بجانب الوادي أو البئر في وقت مبكر، وتطهيرها من الأوساخ العالقة (اَلْوَدْحَةْ)، وتَقْطِيبِهَا بالعصي على إيقاع موسيقي أصواتهنّ البدوية، وعزف قُلوبهنّ (بمَوَاوِيلْ) أنشودة العمل التطوعي والتضامني بين كل مكونات القبيلة/الدوار، حيث يلي هذه العملية سلسلة أشغال أخرى بَرَعَتْ فيها المرأة المغربية (تنشيف الصُّوف، تحويلها إلى خيوط حرير اَلطُّعْمَةْ، وغْزِيلْ اَلسْدَى..)، بوسائل تقليدية نذكر منها (اَلْقُرْشَالْ، لَمْشَطْ، واَلْمُغَزَلْ واَلْفَلْكَةْ واَلصُّنْـﯕُطْ والصَّنَّارَةْ...).
في فضاء المرس وبجانب طريق (مْرِيرَةْ) تضمن حركة مرور الراجلين من أبناء القبيلة/الدوار من أجل التَصَدُّقْ بدريهمات "الزْرُورَةْ" التي توضع في الغربال، طبعا بعد تلميح النساء للعابرين من الرجال بقولهن: "رَجْلَكْ مْعَلْقَةْ وُمَرْتَكْ مْطَلْقَةْ". فلا يسعهم إلا الثناء عليهن والاعتراف بمجهوداتهن من خلال ما تجود به جيوبهم وأيديهم السخية.
يتم دَقْ وَتَدَيْنِ حديديين متباعدين في عمق الأرض الصّلبة، بعد احتساب المسافة اللازمة للمنتوج المزمع إنتاجه من طرف نساء الدوار (حَايْكْ أو زَرْيِبَّةْ أو جَلَّابَةْ...)، وإحضار لوازم الشُّغْلْ تحت قيادة المرأة "اَلْحَادْﯕَةْ" التي تعتبر "اَلْمُشْرِفَةْ" الرئيسية على فريق العمل المتطوع من الشابات والمتزوجات، والتي تكون في غالب الأحيان تحمل لقب "اَلْقَابْلَةْ" أو "اَلطَّيَّابَةْ" و "مُولَاتْ اَلشْوَارْ في اَلدُّوَّارْ".
تضع النساء "غُرْبَالْ" يحمل كُبَّاتْ لَغْزِيلْ وخْيُوطْ اَلطُّعْمَةْ، والسّْدَى، في حين تشرف "اَلْحَادْﯕَةْ" على وضع "تِيـﯕَرْوَةْ" (إدخال خيوط السّْدَى داخل خيط ناظم وموحد بإحكام) اعتمادا على اَلْوَتَدَيْنِ الحديديين اللذين تجلس أمام كل واحد منهما امرأة تستقبل "اَلسَّدَايَاتْ" و "اَلنَّيَّارَاتْ" المتطوعات لِلشُّغْلْ، ذهابا وجيئة بحركة سريعة ومضبوطة.
ويصف أحد العارفين المهتمين بشغل إعداد المنسج نظما هذه العملية النشيطة بقوله:
"تْجَرِّي اَلسْدَى مَنْ اَلْكُبَّةْ، وُعَايْنْهَا عْلَى اَلْعُـﯕْدَةْ، اَلْمَنْجَجْ يْعَصْمُوهْ، عْلَى اَلْخُشْبَاتْ يْطْوُوهْ، بِالجَّبَّادَاتْ وُ اَلشَّدَّادَاتْ يْثَبْتُوهْ، وُ بِالرَّفَادَاتْ يْشَدُّوهْ، وُ بِالْعَفَّاسَاتْ يْعَفْسُوهْ ".
بعد الإنتهاء من شغل "اَلْمَرْسْ" تهتم "مُولَاتْ اَلشُّغْلْ" بطقس سكب الماء في ثقب الوَتَدَيْنِ، تيمنّا بموسم فلاحي قادم ممطر ومنتج، في حين تحملن النساء الأخريات عدة العمل نحو غرفة العمليات بـ "مختبر المنسج" داخل اَلْخَيْمَةْ/البيت.
في هذا السياق استحْضِرْ نظم أحد المهتمين بتراث المنسج حيث يستتبع وصفه بالقول:
"مَلِّي اَلْمَنْجَجْ يَوْقَفْ، تْحَطْ اَلنِّيرَةْ بِالْخَفْ، اَلْـﯕِيرُومْ عْلَى اَلنِّيَّارْةْ يَتَّعْـﯕَدْ، وُاَلضَّغَاطَةْ وُاَلرِّيَّاحَةْ تْوَجَّدْ، اَلْحَادْﯕَةْ تَدْخُلْ اَلْمَنْجَجْ تْرَبَّعْ وُ تَـﯕْـعُدْ، اَلْخَايْطْ اَلْحَايْرْ يَتَطْلَقْ، وُاَلْخَايْطْ اَلنَّايْرْ يَتَرْبَطْ"
عُمْرُ وحياة "اَلْمَنْجَجْ" رهينة بإزهاق روحه من طرف "اَلْحَادْﯕَاتْ" بعد إتمام عملية النسج، التي تدوم زمن معين حسب إكراهات العمل اليومي سواء داخل البيت أو في الحقل ارتباطا بأشغال المرأة في القرية، لذلك وصف الناظم انتهاء الشُّغْلْ قائلا:
"مَلِّي تَطْلَعْ رُوحْ اَلْمَنْجَجْ مُولَاتُو تَنْشَطْ. اَلْغَبْرَةْ تْسَاسْ وُ تَّنْفَضْ. كَسْكْسُو بِالدْجَاجْ فِي اَلْـﯕَصْعَةْ يَتْحَطْ. اَلْمُقْرَاجْ عْلَى لَوْﯕِيدْ يَتْرَدْ. تَحْلَى لِيهَمْ اَلجَّمَاعَةْ وُيَبْدَا لُغْنَا وُاَلْبَسْطْ".
"تَامَغْرَيِبتْ" عنوان الاقتصاد التضامني
قد يحتاج الأمر إلى صفحات طويلة للحديث عن "شْغُلْ اَلْمَنْجَجْ" خصوصا إذا أردنا استحضار كل وسائل العمل ولوازم مختبر النسيج التقليدي وتوثيق مفرداتها وتقديمها للجيل الحالي كموروث ثقافي لامادي حيث نكتفي بالوصف البدوي لنفس الناظم الذي قال:
"اَلنَّجَانْ، مَلِّي يْرَكْبُو اَلْعَضّاضّاتْ وُ يَحْضَرْ لَمْشَطْ. مَا تَسْمَعْ غَا اَلتْسَرْسِيرْ وُ اَلذِّكْرْ وُ اَلدَّقْ، لَعْدُوزَةْ وُ مْرَاتْ وَلْدْهَا، كُولْشِي كَيَخْبَطْ، اَلجَّارَةْ يَدْهَا عَلْ اَلْمُغْزْلَةْ وُ اَلسُّنْـﯕُطْ، وُ اَلُّلوسَةْ تَدُّورْ بِالْخَيْمَةْ وُ تَعْطِي لَدْجَاجْ اَللّـﯕْطْ، اَلطْفَلْ يَدْخُلْ اَلْمَنْجَجْ فِي حْجَرْ مُّو يَرْضَعْ وُ مَلِّي يَشْبَعْ يَخْرُجْ يْزَعْرَطْ".
وعن مفهوم الاقتصاد التضامني والعمل الجماعي بين نساء الدوار/القبيلة بمختبر النسيج التقليدي، يمكن أن نجزم بأن روح التكافل والتضامن والكرم والإيثار الذي يمتاز بها أهل البادية كانت تَنْعَكِسْ إيجابا على المردودية الإنتاجية في كل الأشغال التقليدية، وهنا نستشهد بقول الناظم البدوي حين أنشد قائلا:
"إِلَا كَانْ لَعْوِينْ وُ لَقْوَامْ. اَلْمَنْجَجْ يَتْـﯕَرَّجْ فِي تَلْثْ أَيَّامْ. اَلْحَايْكْ، اَلْبَطَّانِيَّةْ، اَلجَّلَّابِيَةْ، صَالْحِينْ عَلْ اَلدْوَامْ. أَلْبَسْ، تْغَطَّى، بِيعْ وُ دَهَّزْ لَعْرَايْسَاتْ بْلَا تَخْمَامْ".
من جهة أخرى هناك علاقة تكاملية، و وطيدة بين فْقِيهْ اَلجَّامَعْ ومنتوج النسيج التقليدي بحكم أنه خبير في خياطة "الجَّلَّابَةْ" و "اَلسَّلْهَامْ" و "اَلْخَيْدُوسْ" داخل فضاء "لَمْسِيَّدْ" بجانب "اَلْمَحَضْرَةْ" الذين يقدمون له العون والسّند في إنجاز مهامه التربية والمهنية، من هنا نستند على وصف ناظمنا البدوي الذي قال في هذا المجال:
"مُولْ اَلدَّارْ مَلِّي يْشُوفْ اَلشّْغُلْ كْمَلْ يَنْشَطْ. عَلْ لَفْقِيهْ يْعَيَّطْ. يْشَدْ لَعْبَارْ، يْفَصَّلْ وُ يَبْدَا يْخَيَّطْ. بِلَقْطِيبْ وُ اَلْبُرْشْمَانْ، بِصْبَاعْ مَحَضْرَةْ يْحَفْظُوا لُقْرَانْ. هَا كْذَا شِي كَيْعَلَّمْ وُ شِي كَيَتْعَلَّمْ، كُلْشِي بِلَعْقَلْ يَطْلَعْ مْسَـﯕَّمْ".
قد تقع في بعض الأحيان "مُولَاتْ اَلشْغُلْ" في مشكلة عجز إتمام اَلْمَنْجَجْ بفعل نفاد خيوط السْدَى ولَغْزِيلْ وحرير اَلطُّعْمَةْ، وتؤجّل إزهاق روح المنسج إلى حين توفير الحاجيات المطلوبة، وهكذا وثق الناظم الحدث في بعض أبيات قائلا:
"إِلَا اَلْمَنْجَجْ عْـﯕَزْ. يْجَمْعُوهْ، وُ يَتْسَنَّاوْ لَغْنَمْ حْتَّى تَدَّزْ. وِلَا مُولَاتُو تْسَلَّفْ اَلصُّوفْ وُاَلطُّعْمَةْ. وُتْكَمَّلْ اَلشَّغُلَ وُتْـﯕَرَّجْ اَلْمَنْجَجْ بَزَّزْ. اَلْفَايْضْ يَتْبَاعْ لِأْهْلْ اَلدَّوَّارْ وَلَّا فِي اَلسُّوقْ. اَلْمَدْخُولْ يَشْرُوا بِيهْ كَلْ مَنْ هِيَّا حَاجَةْ بِالذَّوْقْ.."