صباح الحزن يلف المشهد الفني المغربي وهو يستقبل اليوم نبأ الفقدان الكبير. من المستشفى العسكري بالرباط، حيث كان يتلقى العلاج من أزمته الصحية، انتشر الخبر نارا في الهشيم، مع أن الرفاق والأصدقاء عاندوا اليقين، ولو للحظة: هل مات محمد بسطاوي؟
وإذا كان الفنان الراحل قد تجرع ألم أزمات صحية متواترة في الفترة الأخيرة، فإن المشهد الفني لم يكن مستعدا لاستيعاب الحقيقة التي تجتمع فيها البداهة والمرارة معا: لقد مات بسطاوي.
في الطريق لمعانقة الأسرة، الزوجة المكلومة، الفنانة سعاد النجار، رفيقة الرحلة والمرض، والأبناء الذين يشاركهم الفن المغربي وعشاقه شعورا حادا باليتم، كان محمد خيي يؤدي أحد أصعب أدواره: أن يبدي صبرا على مصابه في الرجل الذي تقاسم معه حلو المسار ومره. يؤكد الخبر، ثم يحل الصمت، فأنين صامت، بقلب فارس مهزوم. لعل خيي يستعيد تلك اللحظات الخالدة على منصة تكريمه في الدورة السابقة لمهرجان مراكش السينمائي. صديق العمر سلم له نجمة المهرجان، وقبل ذلك خفف عنه ارتباك اللحظة: "يا خيي، خفف عنك، فإني أكثر منك ارتباكا...".
في الأسبوع الماضي، على شاشة قصر المؤتمرات وسينما كوليزي، بمراكش، كان الوداع المشهود والسري بين السينما وجمهورها، والابن البار الذي طلق الاغتراب لخوض مغامرة الفن في البلاد. في فيلم "جوق العميين" لمحمد مفتكر، الذي عرض في إطار المسابقة الرسمية لمهرجان المدينة الحمراء، بدا بسطاوي بكامل حيويته، طافحا بالطاقة التعبيرية التي طبعت أداءه دائما. من لا يعرف من جمهوره كان يبحث في محيط كيليز ومقاهيه عن الفقيد، من أجل صورة للذكرى، ومن يعرف، من رفاق الفن والطريق، كان يدعو له.
بقدر ما كان الحضور وازنا، بخاتم التميز، في خانات ومساحات لا يشغلها غيره، بقدر ما يبدو الفراغ فادحا، والفقدان عصيبا. سيفتقده المسرح والسينما والتلفزيون، هو الذي كان مجرد ظهور اسمه على الجينيريك ضمانة لفرجة أكيدة والتفاف جماعي حول الوجه والنظر والصوت وقوة الإشارة وحرارة التعبير الحي. ذلك أن الفن التمثيلي عند بسطاوي كان يقيم تحت الجلد.
ابن خريبكة، الموئل المنتظم لاستعادة الأنفاس وتقاسم الذكريات والانفلات من سطوة الضوء، قدم على مدى مساره الحافل نموذجا للفنان الذي يخالف قانون التدرج، فيبدأ قويا متكاملا، ولا تزيده التجربة إلا تفننا في التفاصيل وثقة في النفس وتجاوبا روحيا أعمق مع الكاميرا وجمهور العرض الحي. منذ "بوجمعة" في "دواير الزمان" وعروضه المسرحية الناجحة في أواخر الثمانينات وبداية التسعينيات، رفقة ثريا جبران في "مسرح اليوم" أو في إطار فرقة "مسرح الشمس"، طبع بسطاوي اسمه بقوة في ساحة الفن المغربي، ليصبح في غضون سنوات "المطلوب رقم واحد" من قبل مخرجي السينما والتلفزيون، لأنه ببساطة النجم الأول للجماهير.
ولعله كان مدركا لسر هذه الجاذبية الكاسحة لدى بيوت المغاربة المتجمعة حول الجهاز العجيب، فحافظ عليه ورعاه. أصالة في الأداء، عفوية مدروسة، ذكاء في الاختيار، وانسجام بين عناصر التعبير، حركة جسدية وأداء صوتيا، وعين تلمع بانطباع القرب والحميمية اللذين يسمان الشخصية بعنصر المماثلة لأحياء يوجدون بالفعل، يعرفون بالاسم والصفة في أحياء المدن وشعاب القرى. ذاك ديدنه في كل الأنواع، هو الذي تضاهى لديه مستوى التألق، في الدراما كما في الكوميديا.
منذ نهاية التسعينيات، وحتى رحيله، عاش الفقيد عقدا ونصف مهيمنا على أدوار الصف الأول في أعمال السينمائيين المغاربة، من مختلف الأجيال والمشارب. وقع حضوره مع المخضرم الجيلالي فرحاتي، سعد الشرايبي، محمد العسلي، داود أولاد السيد، ومحمد اسماعيل، وكمال كمال، ومحمد مفتكر وفوزي بنسعيدي، وآخرين، ليكون بالفعل فنان كل الأجيال والأساليب.
أما في التلفزيون، فتستعيد الذاكرة ذلك الوجه الجديد في "أولاد الناس"، لتتلاحق الأعمال تباعا مع "سرب الحمام"، و"دواير الزمان"، و"جنان الكرمة"، و"وجع التراب" و"المجذوب"، و"الحياني" وغيرها.
حين يرحل بسطاوي لا ينقص مجرد رقم صعب. في الحياة كما في الفن، كان عنصر التوازن في العلاقات الإنسانية داخل الوسط الفني ورجل التأليف بين العناصر في العمل السينمائي والتلفزيوني وضابط الإيقاع على شاشة تبحث عن هويتها وأثر الشخصية المغربية في الذاكرة البصرية. يرحل بسطاوي فترفع أسرة الفن وجمهوره راية الحداد.