السبت 23 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: أي عالم عربي مع داعش أو بعدها؟

عبد القادر زاوي: أي عالم عربي مع داعش أو بعدها؟

تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية بعد جهود جبارة من صياغة تحالف دولي ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، وفق مقتضيات قرار مجلس الأمن رقم 2170 المتخذ في إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، آملة من خلاله وقف تمدد هذه الأخيرة في كل من العراق وسوريا تمهيدا لاجتثاثها لاحقا كما أكد على ذلك الرئيس الأمريكي باراك أوباما وعدد من أركان إدارته في أكثر من مناسبة، خاصة وأن هذا التنظيم لا يخفي طموحاته في تأسيس خلافة إسلامية على أنقاض الدول الوطنية المؤسسة معظمها من طرف القوى الاستعمارية بما يهدد مباشرة مصالح واشنطن وحلفائها بالمنطقة.

وبعد مرور أزيد من شهرين على بدء العمليات العسكرية للتحالف عبر ضربات جوية مكثفة تستهدف أرتال الدواعش وأماكن تواجدهم ومستودعات أسلحتهم يتضح جليا أن المعركة ضد الخلافة الإسلامية المعلنة من طرف داعش لن تكون نزهة، وأنها ستطول لسنوات قدرها الرئيس أوباما نفسه بأزيد من ثلاث سنوات، فيما ترى أوساط بحثية واستخباراتية استمرارها لأكثر من ذلك بكثير، خاصة إذا لم ترافقها عمليات على الأرض لتأمين المناطق المسترجعة من داعش، وإعادة الحياة الطبيعية إليها استعدادا لعودة الفارين منها. وهو أمر غير يسير على الإطلاق، لاسيما وأن الجماعات المتطرفة باتت ظاهرة متجذرة في المجتمعات تتناسل تلقائيا رغم كل الضربات التي تتلقاها.

ويعزو البعض تضارب التقديرات بشكل كبير إلى عدم حسم الإدارة الأمريكية لتوجهاتها المستقبلية في المنطقة في ظل التجاذب الحاصل داخل النخبة الأمريكية بين التيار الذي يرى ضرورة انكفاء الولايات المتحدة الأمريكية على مشاكلها الداخلية ومناطقها الإستراتيجية الحيوية حيث التحدي جدي ومحدق وتمثله قوى عظمى لديها إمكانيات للتحدي ومواصلته، تاركة وكالة تدبير الأزمات الإقليمية لوكلاء وحلفاء محليين؛ وبين التيار الداعي للانخراط الأمريكي القوي والمباشر في شؤون المنطقة وشعوبها، انطلاقا من العقيدة الأمريكية الراسخة المرتكزة على أن إعادة تشكيل الدول الخارجة من حروب وصراعات أهلية يدخل في سياق السياسة العامة والشاملة لبناء السلام العالمي، ويعتبر جزءا لا يتجزأ من الرسالة الحضارية للمجتمعات الغربية التي عليها كما يقول سيباستيان ملابي Sebastian Mallaby الشروع في تدشين المرحلة الإمبريالية الجديدة.

وفي سياق كهذا من غير المستغرب أن يعتري العمليات العسكرية الجوية للتحالف ضد داعش قصور واضح يعبر عن قصور مماثل في الخطط والبرامج التي يتبناها التحالف الدولي إن كانت هنالك خطط وبرامج من الأصل، لاسيما لدى عراب التحالف، أي الإدارة الأمريكية، التي لا يعرف أي من حلفائها حقيقة ما تضمر للمنطقة فعلا، مما يرفع من جرعة الارتياب والتوجس مما تقوم به وتعلنه لدى الحلفاء والأعداء على حد سواء.

وعلى ضوء المتابعة الدقيقة لمجريات الأمور على أرض المعارك، وفي أروقة الدبلوماسية الدولية وكواليسها يمكن رصد ملامح قصور التحالف الدولي على أكثر من صعيد:

- محدودية الضربات الجوية التي نفذت 90% منها القوات الجوية الأمريكية، وعدم قدرتها على تغيير الحقائق كثيرا على الأرض إن في العراق حيث يسيطر تنظيم داعش على حوالي ثلث مساحة البلاد، يفقد منطقة ليحتل أخرى في حالة كر وفر مع القوات العراقية وقوات العشائر السنية في محافظة الأنبار، أو في سوريا التي يتمدد التنظيم على ثلث مساحتها هي الأخرى، ولا يزال يستميت في محاصرة مدينة كوباني الكردية على الحدود مع تركيا رغم تكثيف الضربات الجوية عليه هناك، ويزحف تدريجيا في ريف مدينة حلب حيث تتعقد الأوضاع وتتشابك أكثر فأكثر، ناهيك عن الجيوب التي أقامها في جبهة الجولان المحتل على الحدود مع إسرائيل وداخل التراب اللبناني أيضا.

- تباين بل وتعارض مواقف القوى الدولية والإقليمية المنضمة طوعا أو قسرا لهذا التحالف. ويتضح ذلك جليا على أكثر من صعيد:

+ في المساهمة في الضربات الجوية نفسها، إذ يلاحظ أن القوى الغربية ككندا وفرنسا وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية يلتزم طيرانها بضرب داعش على الأراضي العراقية فقط تمشيا مع مواقف صدرت من قبل عن مؤسساتها التشريعية تمنعها من القيام بعمليات عسكرية فوق التراب السوري، فيما اقتصرت الضربات الجوية للطيران العربي على مواقع داعش وأرتالها على الأراضي السورية فقط، وبالتحديد في مناطق آبار البترول والغاز، على أمل تدمير أحد منابع التمويل الذاتي لتنظيم داعش الذي يدر عليه أزيد من 2 مليون دولار يوميا جراء البيع العشوائي عبر سماسرة أتراك وأكراد وأردنيين وبأسعار متدنية ساهمت نسبيا إلى جانب عوامل أخرى في انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية من 110 دولار قبل ثلاثة أشهر إلى أقل من 80 دولار؛ الأمر الذي يؤثر سلبا في ميزانيات عدد من دول الخليج الملتزمة داخليا وخارجيا بمصاريف ضخمة تتطلب أموالا باهظة لن تستطيع توفيرها بدون أسعار مرتفعة للبترول والغاز.

+ في الشروط التي وضعتها العديد من القوى الإقليمية قبل الالتحاق بالتحالف، وذلك كما يلي:

وقد نجحت إلى حد كبير في فرض عدد من راؤها لتطورات الصراع بالمنطقة من قبيل إقصاء نظام الرئيس الأسد عن أي مشاركة ولو غير مباشرة في التحالف الدولي وتعويم دور حلفائه المحليين في الاتحاد الوطني الكردي السوري في الدفاع عن مدينة كوباني بإصرارها على انضمام بشمركة أكراد العراق إلى معركة الدفاع عن المدينة المتاخمة لحدودها، وتمكينها لأرتال من الجيش السوري الحر من المساهمة في ذلك المجهود أيضا.

ومن المرجح في ظل التطورات الجارية ألا تتخلى أنقرة عن مطالبها بإقامة منطقة حظر جوي شمال سوريا أو منطقة عازلة لتأمين تواجد فعلي لحلفائها من المعارضة السورية واستيعاب أعداد من اللاجئين الذين يتقاطرون عليها، وكذلك عما تسميه استراتيجية الدمج التي تقضي بضرورة دمج مسألة إسقاط الرئيس السوري ونظامه ضمن إستراتيجية محاربة داعش، وإلا فإن إسهامها في التحالف الدولي سيكون محدودا ولن يتجاوز الإطار التكتيكي فقط.

وفي هذا السياق يعتقد الأتراك أن تردد واشنطن في التجاوب معهم بشأن إسقاط الرئيس الأسد ناجم عن رغبتها في عدم تخريب مفاوضاتها النووية مع إيران، التي باتت حليفا طبيعيا لها ضد داعش في العراق، وعدم تعريض مصالحها لهجمات محتملة من قوى شيعية تحارب إلى جانب قوات الأسد كحزب الله وكتائب الفضل أبو العباس. ولكن أطرافا عربية تعتقد أن عدم إصرار واشنطن باستعمال ضغطها ونفوذها لتذليل العقبات التي تحول دون فعالية التحالف الدولي يعود إلى رغبتها في احتواء داعش وليس اجتثاثها. فبقاء هذا التنظيم يساعد في إثبات استحالة تعايش الطوائف المختلفة داخل الوطن الواحد، وتبرير عملية ترسيم حدود جديدة تراعي هذه المعطيات.

وطبيعي في وضع كهذا أن تزداد الساحة الشرق أوسطية تعقيدا أكثر وأن تكون الضربات المتبادلة بين الأطراف أقسى. وهذا ما يلاحظ على امتداد خريطة العالم العربي رغم الآمال التي أفرزها نسبيا نجاح تجربة بداية خروج تونس من دوامة المراحل الانتقالية بطريقة ديمقراطية احتكمت لصناديق الاقتراع والإرادة الشعبية.

انطلاقا من هذه المعطيات يبدو مستقبل المنطقة العربية مع داعش أو بدونها قاتما. فسوريا تدخل دوامة جديدة وقاسية وعنيفة لا مكان فيها سوى للدم والثأر، لأنها قد باتت منقسمة جغرافيا ونفسيا بشكل كبير، ولم يعد يجسد الحد الأدنى من وحدتها سوى التماسك النسبي لما تبقى داخل قواتها المسلحة، والفيتو الذي تفرضه روسيا والصين إزاء أي محاولة لسحب الشرعية عن النظام المتقوقع في دمشق، وفي مناطق طائفته العلوية على الساحل.

ومع أن اكتساح داعش لمساحات شاسعة من العراق ساعد على إفراز حماسة وطنية مشتركة لدى مختلف مكونات الشعب العراقي رغم تطاحنها الحاد، فإن بلاد الرافدين منقسمة فعليا على الأرض وفي الأذهان والنفوس بشكل تبدو معه المعارك الدائرة حاليا كحروب لترسيم حدود المكونات الثلاث، كما يتضح ذلك جليا من:

+ تكثيف تسليح الأكراد، وبدء تدريب وتسليح العشائر السنية والضغط لإنشاء الحرس الوطني من أبناء هذه العشائر الذين قاتلوا من قبل ضمن الصحوات التي استطاعت الانتصار على تنظيم القاعدة بقيادة أبو مصعب الزرقاوي في نهاية العشرية الأولى من القرن 21.

+ ضراوة الصراع على كركوك الغنية بالنفط، التي تتعطل عند إثارة موضوعها مواد الدستور العراقي الفدرالي كله لتعلو نغمة التخندق العرقي والطائفي دون غيرها.

ولا غرابة في أن تكون هذه العواصف الإقليمية العاتية وراء انحراف العديد من الجماعات المذهبية والإثنية عن هدفها المتمثل في حيازة شرعية البحث عن الشراكة السياسية المتساوية داخل الوطن الواحد لتغدو باللجوء إلى الاستقواء بالخارج ضمن سعيها لإثبات الوجود مجرد أداة وظيفية له في إطار صراعات مصالحه مع القوى المناهضة أو المنافسة له. ومن المرجح أن وضعا كهذا مشبع بعدم الثقة بين مكونات المجتمعات جعل الأكراد يستشفون أن هذه هي الفرصة التاريخية المواتية لتحقيق حلمهم في قيام دولتهم ولو على أنقاض بعض الدول القئمة. فذلك الحلم ظل يراودهم منذ أن خذلهم اتفاق سايكس بيكو وشرذمهم على أربعة دول  بعضها كان قائما كتركيا وإيران والبعض تم استحداثه كسوريا والعراق.

وعلى ذات المنوال يبدو اليمن متوجها نحو الانقسام ربما إلى أكثر من يمنين كما كان في السابق مع انتعاش الحراك الجنوبي من جهة، وما يمثله الحوثيون الشيعة الزيدية من تهديد جدي لوحدة الشمال؛ فيما بقايا ما يسمى بالدولة في ليبيا هجرت العاصمة التي باتت مسرحا لاقتتال الميليشيات المتناحرة حول الغنائم متناسية أن منطقة برقة انطلاقا من عاصمتها بنغازي تهدد جديا وحدة التراب الليبي، خصوصا وقد أعلنت  نفسها من قبل إقليما فدراليا.

وبما أن القضاء على داعش غير وارد في المدى المنظور، لاسيما وأنها برزت لملء فراغ مهول، ولن تنتهي إلا بعد زوال هذا الفراغ المزمن؛ فإن المخاوف الناجمة عن إصرار هذا التنظيم على البقاء والتمدد كما أكد العدد الخامس من جريدته الشهرية دابق، تمددت هي الأخرى لتصل إلى دول الخليج كافة، التي باتت أكثر رعبا من ذي قبل، لاسيما وأن المنطقة الرخوة في الخليج وهي البحرين تعيش على وقع تصدع عميق للعلاقات بين مكوني الشعب من شيعة وسنة في أعقاب الانتخابات البلدية والتشريعية التي قاطعتها الفصائل الشيعية الأكثر تمثيلية.

ورغم التهوين إعلاميا من إمكانية التمدد الداعشي في الخليج؛ فإن الهواجس كبيرة كما يتضح من عدة إرهاصات أبرزها:

- الإعلان عن استعانة الإمارات العربية المتحدة بوحدات عسكرية مغربية في سياق تعاون البلدين أمنيا منذ عقود، رغم أن البعض يربط هذه الخطوة بالتزامات إماراتية للمساهمة عسكريا في التحالف الدولي ضد داعش، وبالدور الإماراتي غير المخفي في الصراعات الدائرة في ليبيا.

- كثرة أعداد أبناء المنطقة ولاسيما المملكة العربية السعودية في صفوف داعش واحتمالات نجاح بعضهم بالعودة إلى المملكة دون إثارة الانتباه وتحريك ما قد يكون هنالك من خلايا نائمة.

- بدء التضييق الأمني بالاستدعاءات المتكررة والمداهمات المفاجئة للعديد ممن يشتبه فيهم في السعودية والإمارات وقطر والكويت، وخاصة أولئك الذين تعتبرهم السلطات منتمين لما يسمى في الفكر السلفي الجهادي بالسرورية، التي تشكل تحديا أمنيا في المملكة العربية السعودية بتمركزها في مناطق النفوذ التقليدية للأسرة الحاكمة في منطقة نجد؛ وهو تحدي ربما أكثر حدة من خلايا شيعية نشطة في شرق المملكة.

ومعلوم أن السرورية كحركة سلفية متشددة تنسب إلى الإخواني السوري السابق محمد سرور بن نايف الذي سبق وأن اشتغل مدرسا في السعودية قبل أن يستقر به المقام في لندن حيث أسس مركز دراسات السنة النبوية. وقد اكتسبت هذه الفرقة هالة إعلامية بعد أن كفرت في التسعينات ليس فقط النظام السعودي، وإنما كل الحكومات العربية، داعية إلى استئناف الخلافة الإسلامية، التي جاء أبو بكر البغدادي فأعلنها ونصب نفسه خليفة.

وتعتقد أوساط أمنية خليجية أن السرورية لديها أذرع سياسية وخلايا في كل من الكويت والإمارات ولاسيما إمارة الشارقة، تمثلها الأحزاب المسماة الأمة غير المعترف بها في الدول الخليجية السالفة الذكر.

إن ذات الهواجس الخليجية يمكن رصدها وبحدة أكثر في الدول العربية بشمال إفريقيا حيث العديد من التنظيمات المتشددة في مصر وليبيا وتونس والجزائر بايعت رسميا الخليفة الداعشي أبو بكر البغدادي. وقد وصلت ظاهرة المبايعة هذه إلى المغرب رغم أنها لحد الساعة من أفراد سرعان ما تم إلقاء القبض عليهم، وليس من تنظيمات أو خلايا. ومن المؤكد أن تواتر المبايعة من هنا وهناك ليس عملا اعتباطيا، بل فيه شبهة التنسيق المسبق وبدرجة كبيرة مع قيادات داعش نفسها.

ولهذا من غير المستبعد أن تكون هذه المبايعات الجماعية مقدمة لتوسيع دائرة المواجهة من طرف قيادات "الخلافة الإسلامية" عبر فتح جبهات جديدة ولو للتشويش بغية تخفيف ضغوط الضربات الجوية المتلاحقة على أرتال داعش في العراق وسوريا. وإذا أضفنا لذلك نشاط المتطرفين في منطقة الساحل والصحراء، وما يكون لهم من امتداد وتعاطف في مخيمات البوليزاريو بتندوف، فإن منطقة المغرب العربي تبدو هي الأخرى على فوهة بركان قد تعجل التوترات الاجتماعية القائمة في سرعة انفجاره.

وفي المعلومات أن واشنطن تخشى أن يدفع ما تلاحظه من تشديد للقبضة الأمنية في كل من مصر، وكذلك الجزائر على التنظيمات الإخوانية وتلك المنبثقة من رحمها أعضاء هذه الأخيرة أو معظمهم إلى المزيد من التطرف والعنف، مما يضاعف مستوى إرباك المخططات الأمريكية ويفاقم حدة زعزعة استقرار المنطقة ، خاصة إذا ما انضمت فصائل من شباب هذه التنظيمات إلى داعش وأخواتها.

ويشي هذا الأمر إذا ما تحقق بأن العالم العربي رغم ضراوة ما يجري في بعض مناطقه من اقتتال، فإنه في مجرد بداية نزاعات وصراعات أهلية ودينية ستزداد شراستها حتما في القادم من الأيام، وربما لعقود طويلة. فقد ثبت أن النخب التي تولت السلطة بعد رحيل الاستعمار فشلت في ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية الذي استنبطه الاستعمار لتأمين مصالحه وفرضته ضرورة استغلال ميسر للنفط والغاز في أخرى؛ الأمر الذي قد يجعل من المستحيل أن تتمكن أدوات وآليات السلطات القائمة المتآكلة شرعية ومصداقية بعضها والمنخورة كلها بالفساد من دحض الشرعية الصاعدة لخطاب الإرهاب والتطرف وسط الشباب العربي المحبط.

وفي ظل تشبث التكفيريين بتحقيق أحلامهم وأوهامهم كيفما كان الثمن  وإصرار أنظمة القمع السائدة على التمسك بالسلطة بأي ثمن، وعدم تبلور حركات اجتماعية وسياسية ديمقراطية قادرة على تغليب مفهوم التغيير السلمي، وبناء الدولة الوطنية المدنية المستوعبة لكل مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم الدونية؛ فإن الاضطرابات الراهنة في العالم العربي تبدو مجرد مقدمة لاضطرابات أعمق قادمة كفيلة بإحداث تحولات جغرافية وسياسية وإستراتيجية سلبية في مجملها تتراوح بين تفكك كيانات دولتية وتفتت أخرى بشكل لن تعود معه خريطة المنطقة أبدا كما كانت.

وبالتالي، فالمنطقة العربية مقبلة على تبديد ما تتميز به من تنوع إثني وديني ومذهبي وثقافي ولغوي، وتحويل كل ذلك من ورقة قوة، كما هو الحال في التنوع الذي يزخر به المجتمع الأمريكي، إلى عامل ضغط على العرب وابتزاز لهم بسبب أنانيتهم وجهلهم.

وأمام ما يجري الآن من تقسيم المقسم، وإسقاط حدود سايكس بيكو وغيرها من الحدود الموروثة عن الاستعمار الذي بات العرب يستجدون تدخله للحفاظ على تلك الحدود التي سبق له أن رسمها، وعدم استعداد أي طرف إقليمي لإجراء مصالحة مع الأطراف الأخرى، لم يتردد الدبلوماسي والباحث الأمريكي المخضرم ريتشارد هاس في تشبيه الوضع العربي الراهن بحالة أوروبا في القرن السابع عشر إبان الحروب الدينية بين 1618 و1648 داعيا فيما يشبه الترويج لطروحات أمريكية تطبخ على نار هادئة إلى تجاوز ما أسماه بالأوهام والقبول بحتمية تفكك العراق. تفكك سيطال كيانات أخرى، مما قد يشعل حروب طوائف تقود حتما إلى التفتت واستجلاب تدخل المجتمع الدولي حماية لمصالحه.

إن التحوط لمستقبل مظلم كهذا يكون عادة بالتلاحم مع الجيران. وللأسف فإن هذه الإمكانية في حالة المغرب معدومة، ما يتطلب الاعتماد على النفس واتخاذ إجراءات مغربية صرفة تروم سد الثغرات ورص الجبهة الداخلية بتنفيس الاحتقان الاجتماعي والتوترات الناجمة عنه، عبر تفعيل مقتضيات توسيع المشاركة في العملية السياسية حتى لا تظل لعبة نخبة ثبتت مع الأيام محدودية رؤيتها وبؤس أطروحاتها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. فلا ينبغي أن تظل شرعية الاستثناء المغربي حبيسة معطيات تاريخية ودينية رغم قوتها، وإنما لا بد من رفدها بمعطيات أخرى تستند على رؤية استشرافية علمية وتكنولوجية للمستقبل تستطيع استقطاب الشباب بعيدا عن جماعات التطرف والعنف فهل سيكون المغرب في مستوى التحدي؟