هذه الحرب الجديدة على الإرهاب، كان بوسع حرب أخرى أن تتجنبها؛ تلك التي تراجع عنها أوباما منذ سنة، بعدما تخطت دمشق خطوطا حمراء كان وضعها بنفسه، بحربها الكيميائية على شعبها. ما كان وقتها لـ "داعش" أن ينمو. هذه الحرب تقودها دولة، ما زال رئيسها متردداً بالغوص في غمارها. يختلف مع كبار ضباطه في حاجتهم إلى رجال الأرض، ويعدِنا في الوقت نفسه بأنها سوف تدوم ثلاث سنوات (فقط؟). ما الذي دفع أوباما إلى اتخاذ قراره بها مرغماً؟ ذبح الصحافيَين الأميركيَين؟ اكتشاف جهاديين أميركيين بين صفوف الجهاديين؟ ميل غالبية الرأي العام الأمريكي لخوضها؟ موافقة الجمهوريين، منافسيه، بل حماستهم من أجلها؟ مجابهته لتوغل بوتين شرق أوكرانيا، واستيلائه على جزيرة القرم؟ "أمريكا في حرب دفاعا عن مصالحها"؛ وهذا سبب، هو وحده الوجيه. وليس، كما يحب أن يكرر كارهو أميركا، في نبرة إدانة عالية. وكأن اتخاذ أي قرار، سياسي أو عسكري، لا يكون جديراً إلا إذا كان ضد مصلحة صاحبها. ولكن تقديرنا للمصالح كلها لا يفهمنا ما هي بالضبط تلك المصالح. ليس هذا فحسب. الأطراف المدعوون إلى المشاركة والتنسيق في هذه الحرب، لا يختلفون كثيرا عن القيادة الأمريكية. العراق، وحده، من بين العرب، سيرفد الرجال إلى الحرب، بحكومته الجديدة القديمة، بإحياء "الصحوات"، بالتوهم بأن جيشه الرسمي سوف ينسق مع الكرد و"الصحوات"... تلك الحرب، دول الخليج تريدها، ولكن باستحياء، من دون تطبيل وتزمير. ربما لديها خشية من رأيها العام، أو من اهتزاز استثماراتها، أو إن داعمي الإرهاب من أبنائها، بالمال خصوصاً، ليسوا مجرّد مواطنين بسطاء. أوروبا منقسمة حولها، ومتفاوتة الحماسة. فرنسا في المقدمة بطياريها، وبريطانيا أقل منها، لن ترسل أكثر من الطائرات، فيما ألمانيا وبقية الدول تلتزم بإرسال العتاد والمساعدات الإنسانية. أما تركيا، التي يدقّ الإرهاب أبوابها، بعدما شرعت له حدودها، فمتحفّظة عليها؛ تخشى على تجارتها النفطية مع "داعش"، وتخاف صعود قوات "حزب العمال الكردستاني"، التركي، بتعاونه مع البيشمركة، العراقي؛ وهذه الأخيرة، هي طليعة القتال، وربما هي الوحيدة الجدية في مشاركتها به، هي الوحيدة الموعودة بدولة. فيما مصر والأردن وإسرائيل سوف يزوّدون قيادة هذه الحرب بمعلوماتهم الاستخبارية. إنها، حرب "ألا كارت "(à la carte)، كما يصفها أحد الجنرالات الفرنسيين. ولكن، من الملفت أن الدولتين الأكثر استعدادا للمشاركة في هذه الحرب، هما المستبعدتان تماما منها، على الأقل إعلامياً. والدولتان هما سوريا وإيران. الأولى، سوريا، قدمت عروضاً، وكان جواب القيادة الأمريكية عليهم ب "كلا!". ولكنها أبقت الباب موارباً، وأبقت الأمل في قلب بشار. فيما إيران قامت بالعكس، نظراً لعزتها القومية؛ فادّعت بأنها رفضت عرضاً أمريكياً بالمشاركة في هذه الحرب. وإذا قررنا بأبسط قواعد الحروب، فإن الحرب ضد "داعش"، سيكون مسرحها كل من العراق وسوريا؛ أي في تلك الأراضي التي تسيطر عليها قوات سورية، إيرانية، أو موالية لإيران، والخاضعة لحرب "داعش" عليها. "موضوعياً"، هناك التقاء بين مصالح هؤلاء المعادين لـ "داعش"؛ ولكن "الموضوعياً" هذه ليس لها ترجمة إلا خلف ستار مسرح العمليات. وهذه مفارقة أخرى من مفارقات الحرب على الإرهاب. إنها حرب بلا قانون. حرب بلا منطق بياني صارم. معقدة، مترددة، ضعيفة، من غير أن تكون بريئة. تتناقض مصالح الشركاء فيها، تتداخل، تحسب علناً وسراً؛ ربما تتحول، فتعود مثلا الجيوش الأمريكية إلى الأرض، أو تتبدل، فتصبح قائمة بين دعاتها وبين المعارضين لها، بين قيادة أمريكية وقيادة روسية-صينية. وهي حرب تحمل كل أسباب فشلها: نظيرتها السابقة، الحرب على "القاعدة"، لم تنجح إلا في تأجيج المزيد من التطرف الجهادي. اليوم تشن الحرب ضد جيل آخر من هذه الجهادية، وبالأسلوب نفسه. سوف يكون من المستحسن هنا أن نقول بأن البديل عن هذه الحرب، أو في أفضل الأحوال، احتمالات نجاح هذه الحرب مرهونة بالترتيبات السياسية، من نوع إعطاء السنة حقوقهم وإشراكهم في القرار الخ. ولكن، حتى نظرياً، هذا الكلام تبين خطؤه مئة مرة خلال العقود الماضية؛ فمهما دققت في تقسيم الجبنة بين الطوائف، لن تكون هذه القسمة عادلة، لسبب بسيط، أن لكل طائفة أسبابها للنزول والصعود، وهذه الأسباب متقلبة، وبالتالي لن تسكت طائفة على حصتها، إلا آنياً. ما من حل سياسي حقيقي متوفر. والحرب إشارة بالغة إلى غياب هذا الحل السياسي؛ فهي لا تنبئ بأن خاتمتها، البعيدة، سوف تأتي بحكم صالح وعادل. بل إن هذه الحرب، فوق الخراب العميم الذي ستخلفه وراءها، ستعيدنا إلى عقلية "ممانعة" جديدة، براية سنّية هذه المرة، تحمل شعار العداء لـ "الصليبية" الأمريكية الغربية. وخذْ ساعتها على خراب عقول جيل جديد، فتي، مجند لحروب متنوعة، بدائية، الكترونية، كيميائية... لا نهاية لها.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)