التحق المغرب منذ أكتوبر 2018، بالدول الموقعة على «اتفاقية بودابست» التي جرى اعتمادها في لجنة الوزراء بـ «مجلس أوروبا» في 8 نونبر 2001، و«ترمي إلى توحيد السياسة الجنائية للدول الأعضاء في مجال الجريمة المعلوماتية، وتسهيل التنسيق بين مختلف السلطات الوطنية في مجال مكافحة الإجرام المعلوماتي والحد منه، إضافة إلى إرساء قواعد إجرائية للتعاون الدولي تتميز بالسرعة والفاعلية والدقة». وفي ماي 2022، عاد المغرب، ليوقع في ستراسبورغ الفرنسية على «البروتوكول الإضافي الثاني» الملحق بـ «اتفاقية بودابست لمحاربة الجريمة الإلكترونية»، وهو بروتوكول جرى التوقيع عليه من طرف عشرات الدول الأجنبية، على هامش المؤتمر الدولي المنعقد آنذاك حول محاربة الجريمة الإلكترونية.
لقد فرض انتعاش الجريمة الإلكترونية وانتشارها على أوسع نطاق، خلال السنوات الأخيرة، على السلطات الأمنية الانتباه إلى هذا التحول الخطير المرتبطة بفورة النشاط التكنولوجي وتأثيراته الأمنية والسوسيولوجية، حيث بدأت المنظمات الإجرامية «وليس الأفراد فقط» تعيد اكتشاف نفسها باستعمال الوسائل الإلكترونية التي تمتع بالمرونة والفعالية من أجل في مزاولة نشاطها الإجرامي عن بعد، اعتمادا على توفير أحدث الأجهزة المتطورة، وعلى كفاءات بشرية هندسية عالية التكوين في اختراق البرمجيات الأمنية وقرصنة البيانات الشخصية، مما أنتج أضرارا سياسية وديبلوماسية اجتماعية واقتصادية ونفسية شديدة الخطورة، بدأت تهدد ليس فقط الأمن الاجتماعي، بل أيضا الأمن السياسي والعلاقات بين الدول، كما جرى، مثلا، مع تسريبات "ويكيليكس"، وأيضا مع أزمة بيغاسوس.. وغيرها، فضلا عن الخطر الذي تمثله الجماعات الإرهابية التي ثبت اعتمادها بما لا يدع مجالا للشك أو التردد على الفضاء الإلكتروني وأنظمة الكومبيوتر كآلية للترويج العابر للقارات للأطروحات التكفيرية، وكمنصة للتكوين المجاني والسريع في المجال الحربي وصنع المتفجرات والأحزمة الناسفة، وأيضا للتواصل بين أفرادها لتنفيذ الهجمات الإرهابية المنظمة.
ولمواكبة هذا التحدي الرقمي المتسارع، وتأثيراته الأمنية على الدولة، وأيضا على الإدارات العمومية والشركات والمواطنين، أرسى المغرب استراتيجيات مبتكرة للتصدي للتحديات الرقمية المتزايدة، سواء من خلال إنشاء آليات للدفاع وحماية نظم معلومات الإدارات والمؤسسات العمومية والبنيات التحتية ذات الأهمية الحيوية، أو رفع مستوى الوعي بين الشركات والمواطنين حول القضايا والمخاطر المتعلقة بالتهديدات المعلوماتية، إضافة إلى المواكبة القانونية على مستوى التشريع والقضاء. ذلك أن التحدي الرقمي أصبح، اليوم، يحتل الصدارة في جدول السياسات العمومية، لأنه يرتبط، أساسا، بتمنيع وحماية البنية التحتية الرقمية، وتقوية نظم المعلومات الوطنية، وإرساء أمن سيبراني يحمل على عاتقه مهمة مواجهة «الهاكارز» في عقر دارهم، واكتشاف طرقهم الاحتيالية الدقيقة والرد عليها، وإخراجهم من مخابئهم، ورصد أماكنهم، وإحباط خططهم، وتصميم برمجيات للصد والدحر والمنع.
وإذا كان الأمن السيبراني يشمل العديد من التقنيات، والممارسات، والعمليات المصممة لحماية الشبكات والأجهزة والبرامج والبيانات من الهجمات الرقمية، والاختراق والتخريب والإتلاف والسرقة، فإن هذه المقاربة الأمنية والقانونية تظل غير كافية في ظل اتساع دائرة هذا النوع من الجرائم التي تجري عن بعد، ودون احتكاك مباشر بالضحايا أو ما نطلق عليه تقليديا «مسرح الجريمة». فصحيح أن هناك التحليل الجنائي الرقمي الذي يشمل التحقيق في جرائم الكمبيوتر وجمع الأدلة الرقمية، غير أن الرهان الأساسي الذي ينبغي الانكباب عليه هو التوجه نحو مؤسسات التنشئة الاجتماعية، من أجل التوعية المبكرة بأخطار الجريمة الإلكترونية وتأثيراها الوخيمة على الأفراد والمؤسسات والدول، وعلى السلم العالمي السياسي والاقتصادي والعسكري، والتركيز على تثقيف الموطنين وإرشادهم إلى أنجع السبل المتاحة لحماية أنفسهم من التهديدات السيبرانية، وكيفية التعامل مع الاختراقات الإلكترونية، على المستوى الأمني والقانوني، خاصة أن الاعتماد على التكنولوجيا والاتصالات الرقمية في الحياة اليومية صار أكثر تعقيدا وتأثيرا، بل يشهد تطورا مطردا متسارعا لا مجال إلى إيقافه أو الحد من سرعته. هذاهو الرهان الحقيقي الذي ينبغي الانكباب عليه من أجل مؤازرة الأمن السيبراني الذي بإمكانه رد مجموعة واسعة من التهديدات الرقمية والإلكترونية، لكن لن يستطيع حصر الجريمة إذا كانت تجري في «محيط ضار» لا يعي حقيقة هذا النوع من الجريمة، ولا يدرك حجم الأضرار التي يمكن أن تخلفها الهجمات التي تستهدف فردا أو مؤسسة، مثل سرقة البيانات أو تخريبها، أو الابتزاز المالي، أو التجسس، أو الاحتيال، أو الانتحال.. إلخ.
إن الجريمة الإلكترونية ليست نشاطا إجراميا يبحث عن ثغرات في النظم الأمنية والبرمجيات من أجل حيازة منافع معينة، بل هو نشاط لا ينتعش إلا في ظل وجود نقطة ضعف اجتماعية كبرى تتطلب استراتيجيات وطنية شاملة للتوعية القانونية والتدريب على أخلاقيات الاستعمال، وتنفيذ التدابير والآليات الأمنية كالتشفير، المصادقة البيومترية، لمواجهة جميع التحديات الأمنية الرقمية التي تلوح في الأفق..
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية" الوطن الآن"