الجمعة 7 فبراير 2025
كتاب الرأي

المراكشي: من التلميذ إلى الطالب.. أي إصلاح؟

المراكشي: من التلميذ إلى الطالب.. أي إصلاح؟ إبراهيم المراكشي
ينتقل التلميذ عبر مختلف المستويات والأقسام إلى أن يصل لمرحلة التعليم الجامعي، وأعني هنا تحديدا الجامعات ذات الاستقطاب المفتوح، والتي تشهد كثافة طلابية، يتعلق الأمر بمحطة تعليمية يتحول خلالها من مجرد تلميذ إلى طالب، في الماضي كان لهاته الكلمة وقعها الرنين وصداها المديد، أما اليوم فقد أفرغت من مضمونها، حتى صار لدينا طالب بعقلية التلميذ؛ ومن هنا تبدأ المفارقات.
 
مرحلة التعليم الجامعي تشكل بالنسبة للطالب سلسلة من الصدمات؛ وأولى تلك الصدمات حينما يكتشف ضعف إمكانياته المادية، وهزالة مستواه المعرفي وعدم إلمامه بمهارات الاستيعاب والفهم. والسبب في هذه الوضعية يرجع إلى كون المدرسة العمومية قد تخلت عن أهم وظيفة بيداغوجية لها، والتي تمثل جوهرها وغايتها المثلى، ألا وهي تلقين التلميذ أسس وقواعد التفكير العقلاني، وكيفية التعامل مع محيطه المجتمعي.
 
من المؤسف القول، أن جل طلبتنا عاجزين على ممارسة الفكر، تائهون إن أخرجتهم من دائرة الحفظ والاستظهار. وهذا الوضع يرجع إلى كون المدرسة العمومية ارتكزت في تقييم التلميذ على النمط الكلاسيكي، على النقط المحصل عليها في الامتحانات، ورسخت في ذهن التلميذ أن أهم شيء في مساره الدراسي هي النقطة، أي حصوله على المعدل، وذلك على حساب طرق أخرى حديثة، أثبتت فاعليتها في التقييم، تقوم على السلوك وتطوير المهارات التي تساعده على التنمية الذاتية واكتساب قدرات تسهل عليه، مستقبلاً، مساره المهني. فالتعليم فصل عن التربية منذ سنة 1972.
 
والصادم في الأمر أن التلميذ حينما يتحول إلى طالب، يجد الجامعة تعمد إلى تعميق هذا الشرخ وترسيخه كسلوك وكثقافة وكغاية لديه.
 
في الواقع، الجامعة ما هي سوى مرآة تعكس بصورة أكبر تناقضات ومشاكل المدرسة العمومية، فهي بدورها لا تساعد الطالب على التفتح العقلي، ولا تمنكه من تعلم طرق ومناهج التفكير العقلاني، وهنا لا أقصد مادة مناهج العلوم الاجتماعية، فالتفكير العقلاني شيء والمحتوى البيداغوجي لهذه المادة شيء آخر. وهنا أفتح قوس لتوضيح القصد بالتفكير العقلاني، إنه التفكير الذي يشكل ميزان التوازن الشخصي الذي يساعد صاحبه من الفهم العميق للظواهر والمعطيات المحيطة بها، والربط فيما بينها للتوصل إلى حلول ونتائج منطقية؛ إنها الآلة التي تمكن الطالب من الخروج من دائرة النقل والاستيلاب الى دائرة العقل والاستيعاب، وتجعل منه في نهاية المطاف عنصر بناء للمجتمع، وليس معولا لهدمه. هذا هو الدور الحقيقي للتعليم بمختلف أصنافه ومستوياته. أعود وأقول على أنه عوض أن يكون هذا هو الدور الطبيعي للجامعة، وتعمد الى تصحيح أخطاء المدرسة العمومية، نجدها تثقل كاهل الطالب بكثرة المواد التي تفيض غزارة بالمعطيات والمعلومات القائمة على الحفظ والاستظهار، بصيغة أخرى، كثافة في المواد مع ضيق في الوقت، علما أن الطالب قد جاء بخلفية مفادها كون النقطة تمثل الركيزة الوحيدة للنجاح في مساره الدراسي، وبالتالي يكون تركيزه منصبا على فترة الامتحانات والحصول على المعدل المطلوب بأي ثمن، ولو بالغش وبطرق أخرى غير شرعية. وبمجرد ما تنتهي فترة الاختبارات حتى يكون الطالب قد مسحت من ذاكرته جل ما "اكتسبه" من معارف، لأنه اكتساب قائم على الحفظ والاستظهار، يموت بمجرد الولادة القيصرية للنقطة، والتي غالبا ما تكون ولادة مشوهة. هذا في وقت لا يجد الطالب من يتفهم وضعه النفسي ومعاناته المادية، ولا يجد من يحفزه ويشجعه على تجاوز نواقصه المعرفية والتواصلية والمهاراتية.
 
لقد أصبحت الجامعة ذات الاستقطاب المفتوح، بالنسبة للطالب مجالا غير مغري، إنها فقط الضرورة أمام غياب البدائل، ومنبعا من منابع شقاءه ومعاناته، هذا على الرغم المجهودات المبذولة والتضحيات الجسيمة من طرف الهيئتين الإدارية والتدريسية، في ظل نقص حاد في الموارد البشرية، وفي الإمكانيات والوسائل البيداغوجية، وأيضا المادية.
 
الجامعات ذات الاستقطاب المفتوح مقبلة خلال هذه السنة الجامعية على تنزيل مضامين الإصلاح الجامعي، وهو إصلاح طال انتظاره، مضامينه جريئة، وتهدف إلى تحسين المهارات التواصلية لدى الطالب، وتنمية قدراته الذاتية وزرع روح المبادرة والمقاولة عنده. وهذه أهداف طموحة يتطلب تحقيقها توفير الموارد البشرية الكافية والتحفيز المادي والمعنوي للأطر الإدارية والتعليمية بالجامعات المغربية.
 
بيد أنه من خلال قراة متأنية لمضامينه، والربط بين مختلف عناصره ومكوناته يتضح لنا أن الإصلاح المرتقب قد أغفل الغاية الرئيسية من التعليم ألا وهي تعليم الطالب كيف يمارس التفكير، وكيف يفكر بطريقة عقلانية، أما المعطيات والمعلومات فهي سهلة الولوج ومتاحة للجميع في ظل عولمة الإنترنت.
 
ملاحظة أخرى، قد تكون سببا في فشل هذا الإصلاح، يتعلق باقتصاره على التعليم الجامعي، وتناسى القائمون عليه أن الطالب قبل أن يكون طالبا، فهو تلميذ، خريح المدرسة العمومية بكل مشاكلها، التي ينقلها معه نحو رحاب مدرجات الكليات، وبالتالي يصعب تنزيل أهداف هذا المشروع الإصلاحي لأنه لم يشمل مستويات التعليمية الدنيا. إن حجر الزاوية في هذا الإصلاح هو الطالب، الذي ينبغي إعداده لهذه المرحلة، وذلك منذ المستويات الدراسية الأولى، إذ ليس من المعقول أن يطلب منه التجاوب وهو حامل لتراكم خيبات التعليم الإبتدائي والإعدادي والثانوي، التي ينبغي إصلاحها أولا في مهدها، وليس بعد تراكمها. إضافة إلى أن الإصلاح أقصى رجالات التعليم والأطر الادارية منه. باختصار الإصلاح لم يكن شموليا، وهذا لا يعني التبخيس من أهدافه الطموحة.
 
القائمون على شؤون التعليم الجامعي واعون بكل هذه الإشكالات، وهم على دراية تامة بمكامن الاختلالات التي تعاني منها المنظومة، لكن أعتقد أن المشكل في الأقلية المتحكمة في البلاد التي لها وجهة نظر أخرى. إن المخزن بشقيه التقليدي والحديث متفق على أنه في المرحلة الراهنة، لا يحتاج المغرب أن يكون رجالات الغد يمتلكون أدوات التفكير العقلاني، لأن من شأن ذلك أن يغير الكثير من الأشياء تحت أقدامهم؛ وهذا التغيير، المنشود من طرف الهيئات الحقوقية وبعض فعاليات المجتمع المدني، هو مرفوض مخزنيا في المرحلة الحالية وعلى المدى المتوسط، فهو لا يحتاج سوى لأقلية واعية، نخبة المجتمع وموالية له تفكر للأغلبية، وكأن حال لسان المخزن يقول لعامة المغاربة: "ارتاحوا، لا داعي لتفكروا، نحن نفكر عوضا عنكم، ونحن أدرى منكم بما هو في صالحكم وبما ينفعكم ويضركم". يتعاملون مع الشعب ويعاملونه معاملة القاصر، وهو في عمومه فعلا كذلك، بعد أن سلبوه حقه في التفكير العقلاني.