الجمعة 17 مايو 2024
كتاب الرأي

أحمد لوكيلي: زاوية من التاريخ " الثلاثاء 11 يناير 1944"

 
 
أحمد لوكيلي: زاوية من التاريخ " الثلاثاء 11 يناير 1944" أحمد لوكيلي
سيبقى الثلاثاء 11 يناير 1944 يوما عظيما لكل المغاربة، هذا اليوم الذي يرمز إلى عظمة شعب في مواجهة النظام الاستعماري؛ يعلم جميع المغاربة أن 11 يناير يشكل يوم عطلة رسمية، لكن القليل منهم من يعرف ماذا حدث في سنة 1944؟ إنها ذكرى دائمًا ما تذكرني بالمناضل الراحل محمد بن عبد الرحمن سعداني، أصغر موقع على وثيقة الاستقلال.
في السياق ذاته أشارك بشهادة شقيقته الحاجّة زينب سعداني (حفظها الله)، زوجة المرحوم مولاي إدريس لوكيلي. تتذكر الحاجة زينب هذا اليوم كما لو كان بالأمس: ذاك الثلاثاء عندما اجتمع الوطنيون في مأدبة الغذاء في منزل المرحوم عبد الرحمن سعداني (والد محمد بن عبد الرحمن سعداني)، حتى أنها تتذكر طعام (الطاجين) الذي أُعدّ في ذلك اليوم بحضور الوطنيين عمر بن عبد الجليل، محمد الزغري وعبد الرحمن الحريشي.
وبعد تناول وجبة الغداء التقت المجموعة في منزل المرحوم الحاج أحمد مكوار للقاء وطنيين آخرين.
بمجرد الوصول، تمت صياغة الوثيقة، ثم التوقيع عليها من طرف66 عضو (65رجلاً وامرأة)، مع العلم أن وطنيين آخرين شاركوا في هذا العمل دون ان تذكر أسمائهم في القائمة، مثل الراحل الحاج محمد بناني الذي كان يجتهد في كل مرة في توفير المواد اللازمة لصياغة وطباعة وتوزيع المطبوعات، علاوة على أبناء عم محمد بن عبد الرحمن سعداني: محمد ا لعر ا قي وشقيقه الراحل عبد الرحمن ا لعر اقي.
بعد بث الوثيقة، نَفّذت القوة الاستعمارية اعتقالات فورية وعنيفة، تتذكر الحاجة زينب ذلك اليوم الذي صعدت فيه إلى السطح لتشاهد كتيبة من الجنود السنغاليين تحيط بالمنزل. لقد تيقنت أن شقيقها لن يعود إلى المنزل. في نفس الوقت كان الراحل محمد بن عبد الرحمن سعداني في المسجد مع الجمع لتقديم شروحات حول مضمون هذه الوثيقة، وتأطير الحشد بشكل جيد استعدادا لمواجهة أي ردّ فعل النظام الاستعماري. ومازالت الحاجة تتذكر بفخر، والدموع في عينيها، الشعارات التي رددها الحاضرون لأخيها رغم صغر سنه.
سُجن محمد بن عبد الرحمن سعداني مع عبد الرحمن الحريشي ومجاهدين آخرين، ثم نُقل إلى سجن مكناس حيث تعرض للتعذيب لمدة 14 شهرًا. تتذكر الحاجة زينب آنذاك عندما كان أفراد الأسرة يتنقلون ذهابًا وإيابًا بين فاس ومكناس لزيارته في السجن. وتصرّ في شهادتها على التفاعل الايجابي لحراس السجن مع السجناء السياسيين وعائلاتهم. الأسرة هاته التي فقدت والدها وظلّ ابنها الوحيد سجينًا، ثم استقرت بعد ذلك في إيموزار كندر، في منزل منحه لهم صديق للعائلة. وتٌذكّر بالتضامن الاستثنائي الذي كان قائماً، لا سيما تجاه عائلات المعتقلين.
إن وثيقة الاستقلال (11 يناير 1944) المقدمة إلى السلطان محمد الخامس، أضفت الطابع الرسمي على موقف الوطنيين ضد أعمال النظام الاستعماري. وولّدت سخطا ممزوجا بانبهار بالموقعين على الوثيقة، والتي ستشكل فيما بعد محفزات لثورة شعبية مذهلة، أدّت بعد 12 سنة إلى نهاية نظام الحماية واستقلال المغرب.
أتيحت لي الفرصة لأتعلم الكثير من الراحل محمد بن عبد الرحمن سعداني، الذي كنت أراه فيلسوفًا عظيمًا وفعالا من أجل الكرامة ومثالًا للولاء. كان يقول دائمًا "الحب هو النضال من أجل العطاء، مقابل ذلك، فإن التعامل من أجل مصلحة ليس حبًا بل هو انتهازية".
بعد وفاته لن أنسى صديقه المرحوم مهدي المنجرة المتحسّر في مقاله بعنوان "الإخلاص في حداد" مات سعداني، إذ قال فيه: " اليوم الإخلاص في البكاء، والاستقامة في الحداد، والتواضع في الألم. التشدد في العدم، عالم المعرفة وشعلة النقاء قد انطفأت. لقد تركنا رجل طاهر وكامل، حيث يمكن تلخيص رحلته وأهداف حياته في كلمة واحدة "الكرامة"، لقد رحل عنّا "محمد بن عبد الرحمن سعداني" ذاك المناضل الأصغر من بين 66 موقعًا على وثيقة الاستقلال سنة 1944 ".
اليوم، بعد مرور ثلاثة أرباع من القرن، ما زلت أعبر عن انبهاري واحترامي لهذا الشعب المثالي من خلال حبّه للوطن وإرادته القوية للتّفاني في خدمته. هذا الشعب رغم النقص في التكنولوجيا واللوجستيات، تمكن من وضع سياسة ربط من خلالها بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب. هذا الشعب الذي ظلّ يتوفر على متطوعين قادرين على القيام برحلات طويلة ومؤلمة من أجل الحفاظ على التواصل بين الجهات والثقة بين الزعماء. شعب لديه شعار واحد: "الله، الوطن، الملك"، الله الذي يخلصهم من الخوف بالإيمان، الوطن الذي يدفعهم للخدمة دون طرح أسئلة أو المطالبة بتعويض؛ والملك الذي يحفزهم لتقوية هذه الارادة في الإيمان بحركتهم وإرساء الثقة بين الجهات.
حاليا، هل لدى أبناء وأحفاد هذا الشعب الرائع نفس الشعور بالوطنية والمدنية مثل أسلافهم؟ هل يفكرون أيضًا في تقديم خدمات أم أنهم مشغولون بخدمة أنفسهم؟ أستغل هذا اليوم لأدعو الله أن يرحم جميع آبائنا وأجدادنا الذين ضحوا بالكثير ليكون المغرب بلداً حراً. كما أدعو الله أن يباركنا ويهدينا للتمتع بهذه الحرية بشكل أفضل من خلال تجنب الظلمة التي تسببها الأنانية والانتهازية واللامبالاة تجاه الضعفاء.
عاش المغرب
 
الراحل محمد بن عبد الرحمن سعداني