الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

المحيفيظ: كتاب الحنوشي اقتحم مجال الاشتباك بين البرلمان وحقوق الإنسان

المحيفيظ: كتاب الحنوشي اقتحم مجال الاشتباك بين البرلمان وحقوق الإنسان الدكتور محمد المحيفيظ، أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة ابن طفيل
صدر مؤخرا كتاب: «البرلمان وحقوق الإنسان: مرجعيات وممارسات» للباحث عبدالرزاق الحنوشي، وقد حظي المؤلف باهتمام لافت عكسته اللقاءات المتعددة التي نظمت في عدة مدن (نحو 20 لقاء في ظرف أربعة أشهر)، وكذا القراءات النقدية والتحليلية التي أنجزتها العديد من الفعاليات الأكاديمية والحقوقية. وسبق لنا في «الوطن الآن» و«أنفاس بريس» أن نشرنا بعضها. ومواكبة للدخول الثقافي الجديد، نواصل نشر مساهمات جديدة. في هذا العدد ننشر مساهمة الدكتور  محمد المحيفيظ، أستاذ الفلسفة السياسية  بجامعة ابن طفيل
 
نحن اليوم نحتفي ونتدارس كتاب أجمع جل الذين قرأوه وعلقوا عليه أنه يشكل مساهمة رائدة ونوعية كونه اقتحم مجالا لم يسبق أن تم الاشتغال عليه علميا، وهو مجال متعلق بمساحة الاشتباك بين البرلمان كمؤسسة تشريعية ورقابية ومجال حقوق الإنسان بقضاياه واهتماماته واشكالاته ونوازله –اللهم إلا بعض المساهمات القليلة التي يحيل إليها الكتاب نفسه-.
كقارئ أقدر الكتب التي أقرأ بناء على ثلاثة معايير تقييمية خاصة: من جهة المعطيات والمعارف التي يوفرها ويمدني بها الكاتب، المعيار الثاني هو المسارات والدروب التي قد يثيرها كمشاريع مستقبلية للبحث، ومن جهة ثالثة الأسئلة التي يمكن أن يولدها في ذهن القارئ وليس فقط الإجابات التي يقدمها للقارئ.
انطلاقا من هذه المقاييس الثلاث أحسبني لا أبالغ إذا قلت إن الكتاب هام وموفق إلى درجة كبيرة جدا. نسجل بداية أن الباحث فضل كاختيار منهجي ألا يخاطب فقط المهتمين المتمرسين المتخصصين، ولكنه أراد أيضا أن يخاطب كل الباحثين المبتدئين أو المهتمين المبتدئين، وهذا فرض على الكتاب هندسة في التأليف إذا لم نستحضرهذا المعطى، ربما بدا لنا أن هنالك فصول كان بالإمكان ألا تكون. لكن الحرص البيداغوجي المشار إليه يبررها ويسوغ وجودها، وهذا في تقديري مهم جدا. ومنها مثلا الحرص الذي نجده في الكتاب على أن يتضمن لمحة تعريفية عن المنظومة الدولية لحقوق الإنسان ،من خلال إبراز السياق التاريخي لظهور وتطور حقوق الإنسان، عبر إيراد وتوثيق نصوصها المرجعية الأساسية وشرحها والتعليق عليها (الإعلان العالمي لحقوق الانسان، العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التنمية المستدامة... إلخ)، وكذلك التوقف بعجالة عند الهيئات والمؤسسات المختلفة المعنية بحقوق الانسان والتعريف بها (المجلس الوطني لحقوق الانسان، المفوضية السامية ،اللجنة الاستشارية)، ثم التعريف بالآليات والإجراءات (الاستعراض الدوري الشامل، الإجراءات الخاصة)، علاوة على الملحق الأول الذي يوثق وضعية الممارسة الاتفاقية للمغرب ذات الصلة بقضايا حقوق الانسان، وهذا الملحق لوحده مفيد جدا لأنه يكفي الباحث أن يعود إليه ليجد الاتفاقيات التي صادق عليها المغرب والتي لم يصادق عليها(...) هذا الجانب يعرفه المناضلون والمشتغلون بقضايا حقوق الانسان، ولكن من هذا الجانب هو مفيد للقارئ المبتدئ الذي يمكنه أن يعتمده ويعطيه نوعا من الاستئناس مع موضوع الكتاب نفسه الذي هو تفاعل واشتباك البرلمان مع قضايا حقوق الانسان، وهذا مستوى أول لا تخفى ضرورته كما ذكرنا.
الكتاب يتضمن عشرة فصول وخاتمة مهمة، وملاحق أيضا في غاية الأهمية. وإذا كانت الفصول الأولى تجد تبريرها في ما قلناه، فإن موضوع الكتاب على وجه الحصر (أي البرلمان وحقوق الإنسان) قد تم بسطها من زوايا متنوعة من الفصل الخامس إلى الفصل العاشر، حيث نقرأ فيها معطيات تفصيلية تقف بدقة عند تفاعل البرلمان المغربي مع قضايا حقوق الانسان ونوازلها، تحديدا خلال ولاية واحدة اختارها الكاتب، وهي الولاية التشريعية العاشرة 2016/2021. ولعل هذا الاختيار راجع لضخامة البحث بكل تشعبات المسارات، الاجتهادات، النصوص التي يفرزها البرلمان في التعامل مع حقوق الانسان، مما يطرح أنه من الممكن أن ننتظر أبحاث أخرى يمكن أن تغطي ولايات أخرى وسأقول لاحقا لماذا.
وهذه الفصول الخمسة التي قلت أنها تعطي معطيات تفصيلية خاصة بتفاعل البرلمان المغربي مع قضايا حقوق الانسان ونوازلها، -وكما قال الصديق الحبيب بلكوش- عبارة عن حصر لمادة غنية ومفيدة للبرلمانيين المعنيين، للباحثين، لنشطاء في مجال حقوق الانسان، وأكثر من ذلك ربما لعلماء السياسة وللمؤرخين المهتمين بالتاريخ الراهن بشكل أساسي.
ثم هناك فائدة أخرى هي الجهد التوثيقي للكتاب، أشرت لبعضه فيما يخص الملحق الأول، وأضيف هنا أن الملاحق الستة كلها التي يتضمنها الكتاب تشمل توثيق لنصوص يجدها الباحث رهن الإشارة ، منها مثلا المبادئ التوجيهية لبلغراد وباريس، نجد أيضا جواب رئيس الحكومة السابق أمام البرمان حول خطة العمل من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان وهي تعطينا لمحة عن الوضع والتوجهات السياسية، وأعتبرها بمثابة محرار لقياس درجة التطور، وكذلك جواب رئيس الحكومة نفسه أمام مجلس المستشارين حول وضعية حقوق الانسان لسنة 2019. وهذا الجهد التوثيقي يشكر عليه الكاتب ويضاف إلى المجهود الكبير الذي يتضمنه الكتاب.
لا أريد أن يفهم من كلامي أن قيمة كتاب تنحصر فقط في هذا الجانب التوثيقي، وإن كان يبدو أن الكاتب قد اعتبر أنه نظرا للفراغ الموجود في هذا المجال، فإن إنجاز هذه الحاجة التوثيقية هي في حد ذاتها مهمة مكتفية بذاتها وتبرر صدور الكتاب بهذه الصفة.  لذلك أعطاها ما يكفي من الاهتمام والجهد الذي نلمسه في تقديم الإحصاءات حول عدد الأسئلة الكتابية والشفوية وتصنيفها حسب الأغلبية والمعارضة وتقديم ذلك وفق رسوم بيانية تبين وتوضح بصريا الهندسة الموجودة بالنسبة لهذا العمل التشريعي. إلا أنه هذا الجهد التوثيقي  الموجود في الكتاب والذي يرصد مختلف اليات العمل البرلماني (مقترحات قوانين، مشاريع قوانين، أسئلة شفوية وكتابية، لجن تقصي الحقائق، اللجن الاستطلاعية)، لوحده - كما قلت - يمكن أن يكفي لإقناعنا بالحاجة الملحة لمثل هذا الكتاب ويبرر مشروعية إصداره. وأضيف لتأكيد ذلك، أن مثل هذا العمل الذي يقدم بكيفية وصفية ما يتم داخل البرلمان على هذا المستوى بما له وما عليه، ولكن بكفية موضوعية، له أهمية كبرى في مسار البناء الديمقراطي لدى الدول التي تكابد من أجل الدخول في الديمقراطية، لأن أخطر ما يواجه مسارات الديمقراطية في البلدان التي تكافح من أجل الدخول في الديمقراطية ، هو أن تسود صورة  عدمية عن العمل التشريعي. أذكر هنا أن الأستاذ عبد لله العروي سبق له يوما ما أن عاتب الحركة النسائية، على أنها من أجل الإقرار بعض المطالب الحقوقية توجهت رأسا إلى رأس الدولة إلى الملك، وقال أن هذا تاكتيك أو نهج مربح على المستوى المباشر والسريع، لأنه يختصر الطريق و يتجنب التعرجات والعوائق والكوابح التي توجد في الطريق العادي وهو طريق المسار التشريعي، لكنه على المستوى الاستراتيجي مكلف جدا، لأنه لا يشجع الممارسة الديمقراطية على أن تأخد مسارها العادي وهو مسار البرلمان والتشريع... بغض النظر على قيمة هذا الحكم الذي ربما فيه نوع من التجني، لأن قضية المـرأة هي قضية لها احتكاك بمجال إمارة المؤمنين وغيرها، ولكن الفكرة تبقى وجيهة وهي أنه يجب على المناضلين من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان أن ينتبهوا إلى أن هذا المجال بما له وما عليه هو المجال الذي يمكن فعلا أن يحتضن تربة القيم الديمقراطية وحقوق الانسان وأن يحصنها لا حقا، بدونه قد تكون مكاسب تحصل أو قد تذهب  مهب الريح.
وهذه المسألة تتطلب معرفة ما يحصل داخل البرلمان، وأستطيع أن أقول من خلال دراسات ومعاينة اختبارية أن نسبة الاهتمام بما يجري داخل البرلمان ليست بالدرجة المطلوبة حتى نستطيع أن نحكم، فالصورالشائعة هي صور نمطية لبرلمانيين نائمين وقاعات خالية، إلى غير ذلك من سلبيات موجودة، لكن جانب آخر الذي يمكن أن يشدد عليه هو اننا في بلد يتعلم الديمقراطية وفي سياق تشكل نوع من الثقافة التي تربى وترصد تدريجيا. هذا أمر لا يتم إبرازه بما يكفي ،والمسؤولية متاقسمة على جميع المستويات بما فيها أصحاب البرلمان أنفسهم، لا يقومون بمجهود كافي للانفتاح على الناس والتعريف بحجم المجهود بصعوباته بانتصاراته وانكساراته، والدليل على أنه يكفي مجهود حتى نتجاوز ذلك هو ما يرد في الكتاب نفسه. فالكاتب يخبرنا بأنه أثناء الحجر الصحي تم اتخاد قرار نقل أعمال اللجن عبر وسائط التواصل الاجتماعي. ونحن نعرف أن ما يتم داخل اللجن مهم جدا لأنه هو النقاش العمومي الحقيقي الذي لا نراه. فقط نرى الجلسات العمومية بإكراهاتها وغيرها في حين أنه في مثل قناة المجلس تبث نقاشات في كل النوازل وتبين الحجج والحجج المضادة التي يحتكم إليها العقل العمومي من خلال إظهار، أين يتقدم؟ وأين يقف؟ يخبرنا الكاتب أنه بمجرد القيام بذلك تضاعف عدد المنخرطين في القناة بحيث بلغ عدد المشاهدات أحيانا خمس مئة ألف نصفهم شباب الذين نقول عنهم عادة أنهم لا يهتمون بالسياسة.
ولعبد الرزاق الفضل في أنه قام بإصدار هذا العمل، وهو الذي تتوفر فيه شرط يندر في الواقع، من جهة يعرف دواليب البرلمان بحكم مهماته ومعاشرته لها لمدة زمنية مهمة، وأيضا بحكم اهتماماته الحقوقية قبل أن يكون رئيس ديوان رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان وبعد ذلك، فهذه المسألة جعلته يقوم بهذا الجهد الكبير، وحبذا لو كان بعض الباحثين في مثل وضعه يشاركون خبرتهم مع القراء ومع المواطنين بصفة عامة.
قلت إن هذا العمل التوثيقي الذي قام به الكاتب يلعب دورأ مهما في تقديم ما يقع داخل البرلمان. لكن علي أن أضيف أيضا أن الباحث كان غير ما مرة يقدم اجتهاداته التأويلية لبعض الأسئلة التي تفرزها القراءة الأولية للمعطيات.
الكتاب يقتصر على الولاية العاشرة كما قلنا، وأنا أشفق على الجهد الذي قام به الكاتب لوحده، لأنه في العادة مثل هذا العمل تقوم به مراكز بحث مجهزة، ولكن مع ذلك آمل لو توالت كتب على الأقل تقوم بنفس العمل من بداية التسعينات، لأنها الفترة التي تم فيها إعطاء الضوء الأخضر للانفتاح على حقوق الانسان، انطلاقا من دراسة لمبيان سنستطيع التعرف على التعرجات ومنحنيات الصعود والنتزول من 1992 الى الآن: أين يتجلى التقدم؟ وماهي الاكراهات التي حدثت؟، انطلاقا من المنعطفات التي حدثت مثلا تفجيرات الإرهابية لسنة 2003 وما هو تأثيرها، وهذا يمكن أن يفيد علماء السياسة والمؤرخين لأنه سيمنح لهم صورة المجال التشريعي في تعاطيه مع ما يحدث في المجتمع بصفة عامة.
كذلك أتصور لو كان هناك كتاب يركز على جانب واحد أو إشكالية واحدة. الكتاب هنا أراد أن يغطي كل شيء من حيث الآليات البرلمانية، ولكن أتسائل، ماذا كان سيكون لو صدر مثلا كتاب خاص بقراءة حول النقاشات التي تتم بمناسبة الميزانيات السنوية انطلاقا من زاوية حقوق الانسان، ولما لا حتى الميزانيات الفرعية، أتصور أن مثل هذا الكتاب سيكون مفيدا.
أخيرا اسمحوا لي بإثارة ملاحظة تثير إشكالا نظريا. في المرجعيات التي اعتمدها الكتاب، نجد أنه اعتمد على المرجعيات الدولية وخاصة الأمم المتحدة مثل الوثيقة التي صدرت عن المفوضية السامية الأمم لحقوق الإنسان سنة 2018 حول اسهام البرلمانات في أعمال مجلس حقوق الانسان. عندما قرأت وثيقة المفوضية وجدت كأنها تنطلق من مسلمة ضمنية مضمرة، وهي أن ثقافة حقوق الإنسان في جميع البلدان التي توجد فيها برلمانات، قد توطنت كقيمة راسخة في المجتمع وفي ثقافته. وهذا ربما حدث في البلدان التي لها مسار ديمقراطي طويل ومسار سنوات طويلة لتوطين فكرة حقوق الإنسان في مختلف مستوياتها، مما يترتب عليه أن الطبقة السياسية عموما تشترك في تبني قضايا حقوق الإنسان. وينعكس ذلك على الأدوار الإيجابية التي يمكن للبرلمان في هذا الصدد أن يقوم بها. ولكن في المجتمعات التي مازالت تعاني من مشكلة الاصلاح الديني والتأخر الثقافي ومازالت تكابد من أجل توطين ثقافة حقوق الإنسان، والبرلمان كما نعلم ليس سوى صورة عن المجتمع في النهاية، فكيف يمكن للبرلمان أن يكون - كما توصي الوثيقة- هو الدعامة الأساسية لحقوق الإنسان. في هذه الحالة لن نستطيع أن نفهم مثلا واقعة يوردها الكتاب من خلال مثال (الإصلاحات التي طالت المحاكم العسكرية)، أن المبادرة في بعض الحالات لا تأتي من البرلمان ولكن تأتي أحيانا من الدولة أو من المؤسسات الدستورية. لذلك فدور البرلمان ينبغي أن يقيم ضمن السياق الثقافي والفكري الذي يوجد فيه. ولا يمكن الاعتماد فقط على التوصية الواردة في الوثيقة المشار إليها، والتي تحث على أهمية القيام بدورات تكوينية البرلمانيين لتحسيسهم بأهمية قضايا حقوق الإنسان، لأن التكوين لا يمكن التعويل عليه لكي  يلعب دور التغيير القيمي. فأقصى ما يمكن أن يقوم به هو التزويد بالمعلومات والمعطيات. لذلك يجب التفكير في هذا الجانب: كيف يمكن أن نجد تفاعلا ما بين الأدوار التي يمكن أن تلعبها المؤسسات الدستورية وجمعيات المجتمع المدني التي هي في الواقع من تحمل هذا الهم، وكيف يمكن أن تستغل لأقصى درجة الامكانيات الممكنة داخل البرلمان؟