أكد رئيس الدبلوماسية الفرنسية لوران فابيوس «وجود خلل في الطريقة التي جرت بها الأمور»، وذلك على خلفية السلوك المشين الذي اقترفه القضاء الفرنسي يوم الجمعة 21 فبراير 2014، من خلال إرسال رجال الأمن إلى مقر إقامة السفير المغربي بباريس لدعوة المدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني «الديستي» قصد الاستماع إليه في ادعاءات تتضمن اتهامه بممارسة التعذيب. وأضاف المسؤول الفرنسي، في نفس الحوار الذي بثته قنوات «أوروبا1» و«إ.تيلي» و«لوموند»، أنه «كان يفترض إبلاغ المعنيين واستخدام دبلوماسية أكبر». إلى جانب ذلك عبر الوزير فابيوس عن الأمل في أن «تهدأ الأمور وهو ما نسعى إليه»، موضحا أن «التصريحات المنسوبة للسفير الفرنسي بالأمم المتحدة، ليست ذات موضوع، وأن السفير الفرنسي نفسه، الذي يتوفر على الشهود، نفى هذه التصريحات». كما أضاف أنه «يجب إيجاد حلول لتفادي هذا النوع من الحوادث»، وأنه «يعمل مع نظيره المغربي على تحقيق ذلك».
قد تفيد القراءة الأولى لهذه التصريحات على ضوء التجاذبات بين الرباط وباريس بأن وزير الخارجية الفرنسي يحاور أن يمسك بالعصا من الوسط ضمن لحظة رمادية تثني على عمق الروابط بين فرنسا والمغرب، دون أن تخسر نوعا من «نقاء الضمير» إزاء موضوعة استقلال القضاء. لكن القراءة المتمعنة قد تذهب إلى اعتبار أن الشريك الاقتصادي الأول للمغرب يجد نفسه اليوم في ورطة حقيقية، وأنه بصدد البحث عن مخرج يرمم تصدع العلاقة بين البلدين ولا يشتم المستقبل.
يدفعنا إلى هذه القراءة اعتباران:
- الأول صيغة التردد التي طبعت الموقف الفرنسي منذ اللحظات الأولى لاندلاع الأزمة، حيث ترواحت ردود الأفعال في باريس بين التمسك بالصداقة التقليدية وما طبعها من تحالف استراتيجي وتعاون اقتصادي من جهة، والتهليل لأطروحة القضاء المستقل على هشاشتها، إذ أنها صالحة في المطلق، لكنها متهافتة من حيث المرجعية في السياق الراهن، ذلك أن المسطرة تتحرك على باطل بمبادرة جمعية شبح، وبممثلين خارج الدور. بل إن العالمين بتفاصيل المشهد الفرنسي يشهدون بتهاوي هذه الأطروحة أحيانا كثيرة، خاصة حين يحتد تجاذب الفاعلين ضمن اللعبة السياسية وأثناء الاستحقاقات الانتخابية الكبرى.
ومما عمق التردد والارتباك هناك طبيعة رد الفعل المغربي المتصف بالحزم، بدءا من طلب التوضيحات من الجهات الرسمية، مرورا باستدعاء السفير الفرنسي في الرباط، وانتهاء بإعلان المغرب وقف كل سبل التعاون القضائي بين البلدين احتجاجا على خرق الأعراف الدبلوماسية، وعدم احترام الاتفاقيات المبرمة بين الطرفين. ومثلما خرقت الإدارة الفرنسية الأعراف والاتفاقيات في هذه النازلة، فقد خرقت بعض وسائل الإعلام هناك قواعد العمل الصحفي بافتعال المعلومة وتسييسها ضربا لمبادئ التحري والموضوعية والنزاهة. وقد تبين ذلك بالمكشوف من خلال أداء وكالة الأنباء الفرنسية التي مزقت ميثاق الشرف الإعلامي، وعرضت العلاقة المغربية الفرنسية الخاصة إلى التدمير.
- الاعتبار الثاني الذي يذهب بنا نحو ما يفيد ببحث فرنسا اليوم، عن مخرج لورطتها إحساسها بكونها تسبح ضد التيار. إن المغرب يواصل امتداده الإفريقي من خلال الزيارة التي يقوم بها الملك محمد السادس هذه الأيام إلى إفريقيا (انظر صفحات الغلاف)، مصحوبا بصحوة دينية وبمشاريع وبآفاق عمل جديدة، مثلما يواصل بناءه الديمقراطي، ويغالب صعوباته برصانة. في حين لا يتمتع الحوار الإقليمي بهذا الهدوء، خاصة بعد بدايات اندلاع التصدع في الشارع الجزائري، احتجاجا على إعلان الرجل المريض بوتفليقة ترشحه للولاية الرابعة! فهل تفرط فرنسا في الثابت لفائدة التهافت؟ وهل تولي وجهها نحو المجهول ضدا على التاريخ وعرى الثقافة والمصالح المتبادلة؟
لقد كان الاتصال الأخير بين قائدي البلدين الخطوة الأولى نحو استعادة العقل، انتصارا للصداقة ولصوت الحكمة، ولا نعتقد أن لدى فرنسا من خيار آخر سوى الاستمرار في احترام سيادة المغرب، لأن ما يجمع البلدين ليس فقط تقاطع المصالح وتشابك العلاقة بالتاريخ، ولكن أيضا سعيهما معا، وإن من سياقات تاريخية مختلفة، من أجل أفق التحديث والديمقراطية والقيم الكونية المشتركة.