العربي رياض: نقد النقد

العربي رياض: نقد النقد العربي رياض
أراني قاضيا عادلا في منامي، جالسا في مجلسي، أعدل الميزان الذي أمامي بعد أن كان مائلا دون أن أعرف المعنى ، أدقق تعديله وتفاصيل تركيبته القابلة للميلان، أزعجني في الخارج صوت من تحت سلهام يستنكر بصوت مبحوح مدعيا أنه معتقل مظلوم .. سارعت بإعطائه إذن الدخول ليكون ضيفا على مجلسي، بعد التحية والشكر على تجاوبي، رفض الجلوس حينما طلبت منه ذلك معللا رفضه بالقول: ليس من طبعي الجلوس، عليك أن تعرفني جيدا، فأنا المحلق العابر المبدع للخيبة والبهجة، أنا المسهم في الخير والشر، أنا فاتح الطرق وأنا مهدمها، وأنا مبسط المنعرجات وعائقها، أنا كل هذا وغيره في كل الأمور وعلى مر العصور، فمتى كان الجلوس والقعود من شيمي، بل إن سبب تواجدي في مجلسك هو الركون والقعود الذي أتعرض له قي خرق سافر من بني جلدتك لحقوقي..
إذن من أنت بالتحديد ؟ 
أنا المال، أنا النافذ في السعادة والتعاسة، أنا منتج القلق ومنتج الانشراح ...
طيب، تصرخ بالاعتقال التعسفي وبالاستبداد، من استبد بك ؟
تلك حكاية طويلة، فأنت وبنو جلدتك أقوام وأقوام، مذ تجمعتم عبر التاريخ بحثثم عني وجعلتموني فيصلا بينكم، أنا أسهل ترابطكم ومعاملاتكم ووزعتكم بكل عدل إلى طبقات، من أجلي انتعشت الكتابة الفلسفية والاقتصادية وحتى الفكرية لأنني خبير في الرواج الذي يعوزكم، في بلدكم لم تحترموا كينونتي ولم توفوا ماهيتي قدرها، وكسرتم العهد الذي بيني وبينكم...
لم أفهم شيئا، ما الضير الذي لحقك منا ؟ 
ضير كبير، فمن جهة أنتم مصابون بالحول، وتفرضوني على شخوص لا تستحقني، قديما سميتموهم بالبخلاء اليوم أسمي الكثير منهم بالعامية المغربية " الخرازا !"
عفوا، إلى ماذا تريد أن تذهب ؟
أيها القاضي عد إلى العهود السابقة، تغيرون اسمي وصفاتي، فأنا الدرهم وأنا الدينار وأنا الفلس وأنا القرش وأنا الريال ...
ما الذي تريد أن تصل إليه ؟ 
لم تتركني أتمم نسبي، فأنا لدي أنساب أيضا، أعجمية ورومية وفرعونية وبابلية وهندية .. لقد سامحتكم وأنتم تفتتون اسم جدودي وأسلافي، لأني أعرف قصر معرفتكم ومحدودية لغاتكم لكني باختصار علمي شديد أنا المال، وهو اسم شامل لدلالات أدبية وفلسفية وفقهية وتاريخية وحتى أسطورية ..
عرفناك ونعرف معناك، أتمم وبلّغ قصدك !
لا لا تعرفوني جيدا، أو لم تسمعني، لقد وزعتموني على شخوص لا معنى لهم ولا يعرفون سر وجودي... 
كيف ؟
أنا لم أوجد لأكدس، أنا لم أوجد لأدخل غرف الانتظار في القمطرات والخزائن المعدنية، أنا أطوع الحديد والخشب والبلاستيك، فضرب من الميتافيزيقا أن أعتقل داخلهم ..
من اعتقلك ؟
أو لا تعرف؟ بنو جلدتك أنجبوا من لا يعرف من أكون والأخطر أنهم وضعوني بين مجموعة من " لخرازا "... 
أنت تعيد هذه اللفظة للمرة الثانية، ماذا تعني ؟
أعني أني سباح، أعني أني محلق، أعني أني أمر عبر الهواء والماء والغاز ومن تحت الأرض وفوقها وفي أحبال الاتصال .. أنا راحتي هي ألا أستريح ...
أرحنا وتكلم !
أتكلم مع من؟ مع شخوص أقفلت فمي داخل صناديق، أتكلم مع أياد ترتعش وهي تعد أوراقي، أتكلم مع نفوس تقفل وهي تصرفني وأخرى مستعدة للفرار حين تتلقفني وتذهب بي إلى مقفل آخر، أناشدكم ! اشرحوا لهم أني أعشق أن "أتمرمد" أن أطوى وأفتح ! أي يلقى بي وأتنقل من هذه اليد إلى تلك ومن تلك السفينة إلى أخرى، أبلغوهم أني أكره المبيت في مكان واحد والمكوث في فضاء واحد، كل استقراري في التيهان بل أنا التيهان، أولم يقرأوا تاريخ الأسلاف الذين تعاملوا معي كيف كنا نمزج الليل بالنهار ولا لون لليوم لدينا، هؤلاء الذين يتعاملون معي اليوم من بلدتكم يجهلون الكثير عني وهم غير أسوياء في ما يحللون أو يحرمون ..
اشرح أكثر !
في ما يحللون هم متشددون؟ وفي ما يحرمون هم أيضا متشددون؟ وهذا يتنافى وطبيعة وجودي ويضر بسمعتي وتاريخي، وجودي من عدمه يحدد مقامهم، فالأهم أن تكون النجومية لتمددي وبروزي لأن نجمهم وتحديد مقدارهم يمتح من نجم صغير من نجوميتي، أبناء جلدتك لا يدركون هذا، فهم مقترون وعبيد للآلة الحاسبة التي لولا أوراقي لما كان لها وجود...
ربما هم يعقلنون أداء خزائنهم وهذا شيء حميد ...
الأصل أيها القاضي هو الحرية، إسأل أهل العلم والراسخين في تفاصيل صرف المال، فأنا لست حرفا أو نثرا أو بندا قانونيا أو سفرا في إنجيل .. فبي تحدد المصائر وتصطف المراتب وترتب المقامات، وأنا راسم معالم الطبقات لكن المؤسف أن أبناء جلدتك قليلو فهم ولم يطلعوا على الكتب، فأي كتاب ستجد اسمي خاليا منه ؟  في الغالب الأعم أنا عصب الكتب، وأنا عصب المواعظ والحروب ومحدد أنواع الأخلاق في الكثير من المراجع، أو تدري ما السر ؟ السر في الانطلاق، قياس سرعتي غير محدد، أنا نفسي لا أضمنه، فأنا أصبح عليل الضلوع كلما ضعف وهذا لا يلائم كينونتي،
وإذا مست كينونتي ضعفتم أنتم لا محالة واسودت الصور أمامكم ...
ما الجرم الذي ارتكبوه إذن ؟
هؤلاء لم يتبعوا الأسلاف ولم يبتكروا طريقة صرف أخرى، هناك العديد من الأمور يجهلونها، يكنزون فقط ليصبحوا عنوان غنى، لم يستسيغوا بعد أنني أنا العنوان، وهم إلى زوال، بلدانكم شحيحة المتع والترفيه وما أدراهم هم بهذه الأمور، أنا أقول لهم إن لأبدانكم وعقولكم عليكم حقا، وبما أنكم منكمشون في هذا الجانب لأن ثقافتكم محدودة غير متسعة، اتجهوا لمناطق أخرى لإخلاء سبيلي، فأنا جئتكم خطأ على ما يبدو... ! 
مثلا إلى أي المناطق تريدهم أن يتجهوا ليحققوا حريتك ؟ 
العلم 
ماذا قلت ؟
 العلم، نعم العلم، قد ينفقوني في هذا الإطار ويضربون عصافير بحجرة واحدة ...
لم أفهمك جيدا ... 
بنو جلدتك ربطوني دائما بالشر والمحرم، وأنا أعذر محدودية معرفتهم، لو صرفوني في البحوث العلمية واستكشاف أسرار الكون والأتربة، ولو لبسوا ثياب فضول المعرفة لاستفادوا كثيرا وتقوت عقولهم ولغيروا الأولويات والمفاهيم ولخجلوا من تكديسي في الصناديق والخزائن، وفي المقابل سأستعيد، بكل ابتهاج، حريتي وكرامتي وستتغير نظرتهم لي وستتقوى زياراتي لهم ولن يعدموني أبدا... 
سمعتك جيدا، فهمت أشياء ولم أفهم أخرى، لكني متيقن أنك تدين عقلية بني جلدتي، فلا هم من أهل الإسراف ولا هم من أهل الاستكشاف، هم يريدونك معبودا وأنت ترى أن هذا الموضع لا يناسبك، وهنا اختلت العلاقة بينكما ...
 استفقت على صياح أطفال يلعبون تحت النافذة، ولم أتوصل إلى حكم في منامي !
 
العربي رياض، صحافي