محمد الصديقي: الأدب بين حرية الإبداع وإكراهات المؤسسة التعليمية

محمد الصديقي: الأدب بين حرية الإبداع وإكراهات المؤسسة التعليمية محمد الصديقي
هل تُعلِّم المدرسة المتعلم الإبداع أم تربيه عليه؟ هل يصلح الإبداع أن يكون موضوع مهارة تعلمية، أم ينبغي أن يكون موضوع نقد ودراسة؟.
هذان السؤالان يحيلان على طبيعة الاختيار الذي تتبناه المدرسة تجاه تكوين المتعلمين وعلاقتهم بما يدرسون، لأن المدرسة المغربية، وفق اختياراتها الكبرى، تتجه إما نحو النقد، أو الابداع. 
في حدود الكفايات المستهدفة وطرق التدريس وطبيعة المناهج والبرامج المتبناة في المدرسة المغربية، يتجه التعلم نحو تكوين المتعلم الناقد، الماسك بالمفاهيم والقادر على استثمارها في وضعيات مختلفة. ولنمثل لذلك بمادة اللغة العربية التي ما عاد مكون التعبير والإنشاء فيها يضطلع بتنمية القدرات التعبيرية بقدر ما يركز على تمكين المتعلم من مهارات تقنوية تسعفه في مقاربة النص القرائي، وبلغة أوضح فمكونات المادة تتجه لتصب في مكون النصوص، بعدما كانت سابقا تتجه نحو استثمار كل التعلمات في مكون التعبير والإنشاء.
وبالإضافة إلى ذلك، فمدخل الكفايات المعتمَد في إطار النموذج البيداغوجي الراهن، يؤشر على مفارقة بين ما تشير إليه الكفاية مفهوما، وما سيقت إليه في مستوى البرامج والمناهج المدرسة وطرق التدريس المعتمدة، ولا سيما في مادة اللغة العربية التي يُفترض أن تتجه أكثر إلى الاعتناء بمواهب الأدب والإبداع الأدبي عند المتعلمين، فالكفاية تنطلق من مبدأ / شعار: من التلقي إلى الإبداع، حيث يُفترض أن يراكم المتعلم الموارد والمعارف من أجل الانتقال إلى مرحلة الإبداع، وهي المرحلة التي تعني أن يتميز المتعلم بالفرادة والتميز، حيث يمكنه أن يشكل أدواته الثقافية والأدبية الخاصة. إلا أن الإبداع هنا، لا يروم مفهومه المرتبط بالأدب والإنتاج الأدبي والفني، وإنما القدرة على استعمال بعض المفاهيم لفهم وتحليل النصوص القرائية، إنه إذن إبداع نقدي وتقني، ومن هنا يمكن تدقيق شعار الكفاية لنقول: الكفاية تتشكل كما يلي: من تلقي الموارد إلى تلقي النصوص. 
ومن جهة أخرى إذا كانت الكفاية مرتبطة بتنمية المهارات لدى المتعلم، والمهارة تقوم على ركنين أساسين هما: المعرفة والدربة، وبينهما علاقة تلازم؛ إذ كل ركن رهين بالآخر، وإلا تحول التعلم، حين ينبني على المعرفة فقط، إلى تلقين نظري مفارق للحياة، أو، حين يركن إلى الدربة وحدها، إلى ممارسة إجرائية غير مفهومة، وغير مرتبطة بقيم أو بنسق يبرر الممارسة التدريسية ذاتها. وتبعا لذلك، فإن البرنامج الدراسي لا يحتوي مهارات إبداعية إلا قليلا، ومنها ما تعلق بكتابة نص سردي، لكنها مهارات متقطعة وغير مرتبطة بأهداف إبداعية كبرى، ومن هنا تظل أغلب المهارات نقدية.
وإذن، فإن التعلم منذور لبناء العقل بالأساس، وهو عقل تقني تجزيئي، قادر على حل وضعيات محددة ومحدودة، واقعية أو تجريدية، لكنها لا تتسع نحو أفق أرحب، ولا تتجه نحو تنمية المهارات الخيالية، وحين يتقلص دور الخيال يتراجع الحس الإبداعي في الغالب.
وعلى هامش الحصص الرسمية، ولدت الحياة المدرسية ولادة قيصرية لتستقطب ما قصُر عنه مضمون ما يُدرَّس في القسم، فتكلفت بإنجاز أنشطة غالبا ما يتم ربطها إما بمناسبات معينة، أو تتجه نحو دعم التعلمات الأساس، أو تخضع لميول القائمين على أنشطة المؤسسة والتي قد لا تكون ذات صلة بالأدب من قبيل البيئة والرياضة والعروض الثقافية... ولعل ما يساهم في ذلك هو غياب ثقافة المشروع المتكامل للأنشطة الموازية، وغياب الوثائق الرسمية الموضحة لأهداف وطبيعة أنشطة الحياة المدرسية بدقة، وعدم خضوعها لمسطرة الإلزام التربوي، وتركها في باب التطوع الذي غالبا ما لا يجد طريقه إلى الإنجاز، أو يدخل في مجال المنافسة غير البريئة إيديولوجيا...
إن مساءلة النظام التعليمي حول موقع الإبداع، إما تعلما أو تربية، يجعلنا نسائل أدوار المدرسة عموما في علاقتها بالملمح الذي تتغياه من روادها وزبنائها، ولفهم هذه المسألة سنقوم بعملية مقارنة بسيطة حول مدرسة الأمس القريب، ومدرسة اليوم.
إن المدرسة كانت تستقطب المتعلمين بما هي فضاء متميز من حيث توفرها على مكتبة، ومعها أحيانا قاعة للمطالعة، ومختبرات للمواد العلمية، ومستودعات للخرائط، وقاعة للأنشطة، وملاعب رياضية... وهي الإمكانات والفضاءات التي لم تكن تتوفر لكل المتعلمين في جل المناطق، وبعضها يستحيل أن يوجد خارج المؤسسة كالمختبرات مثلا. وعليه فالمؤسسة كانت متقدمة على المجتمع، وهي التي تقدم الثقافة للمجتمع وتقوده إليها، وكان الطموح آنذاك أن تنفتح المؤسسة على محيطها رغبة في تصدير قيمها إلى المجتمع، ولا سيما القيم الثقافية.
أما مدرسة اليوم فهي على عكس سابقتها، فيمكن للمتعلم أن يختزل إمكاناتها التقنية والمعرفية في هاتفه الذكي، وبذلك يتمكن هذا الأخير من مسايرة أحدث ما يقع في العالم من مستجدات، وأخبار، وتحولات...، وإذا أضفنا إلى ذلك ما تقدمه بعض المصالح الخارجية عن المدرسة، وبعض دور الثقافة من إمكانات من قبيل ملاعب القرب والمكتبات والقاعات متعددة الوسائط... فإن المجتمع أصبح متقدما جدا عن المدرسة ومتجاوزا لها، وأصبحت أدوار المؤسسة تعرف تراجعا كبيرا، وانتقلت من تصدير قيمها الثقافية، إلى استقبال ثقافة المجتمع، ولا سيما قيمه السلبية، فأصبحت مرتعا للعنف والمخدرات والغش...، لقد فقدت المدرسة مناعتها، وبدل أن تنفتح على المجتمع انفتح هذا الأخير عليها ولم تتمكن من انتقاء الثقافة الواجب استهلاكها، وبذلك تم الانتقال من مدرسة الثقافة إلى الثقافة المدرسية، بحيث تقلص الفعل الثقافي الناضج، وارتفع منسوب الثقافة المدرسية ذات الصلة بالنقطة المرتفعة المؤهِلة لولوج المعاهد والمدارس ذات الحظوة. إنها بذلك تؤسس للأنانية المعرفية، والفردانية المطلقة في مقابل بناء الجيل المبدع علما وأدبا.
في ظل هذه الوضعية، أصبح من الصعب الحديث عن الأدب والإبداع في المدرسة، وإنما أضحى هَـــمُّ المؤسسة أن ترفع نسبة الناجحين وبمعدلات مرتفعة تؤهل متعلميها لاقتناص مقعد في مؤسسات عليا. ولذلك تم التركيز على المواد الدراسية، وتقلص دور النشاط الإشعاعي وتأثيره في المتعلمين.
إن من شروط الإبداع في ثقافة معينة إتقان لغتها، وإشكالية تدريس اللغة العربية في المدرسة المغربية محط إشكال معرفي وتربوي كبيرين، فالمدرسة لا تدرس اللغة العربية وإنما مكونات اللغة العربية من نحو وبلاغة ونقد ...، ولعل أهم سبيل لإتقان اللغة هو تنمية الكفاية التواصلية، وفي جوهرها فعل القراءة. فالقراءة أساس التلقي، والتلقي باب الإبداع. 

محمد الصديقي/ مفتش تربوي للتعليم الثانوي التأهيلي - أسفي