جرت العادة وفي كل شهر رمضان، أن يتعرض الإنتاج التلفزي الرمضاني الذي يبث عبر قنوات الإعلام العمومي، إلى موجة من النقد والإدانة والتبخيس والاستنكار والسخرية أحيانا، خاصة فيما يتعلق بالأعمال الدرامية و "السيتكومات" وحلقات "الكاميرا الخفية"، وما يعرض في رمضان هذه السنة من إنتاج، لم يخرج عن سنة الرفض والإدانة والنفور، لكنه يتميزعن الإنتاجات الرمضانية السابقة، بارتفاع جرعات الجدل والاحتجاج، بناء على زوبعة الجدل التي أثارها مسلسل "فتح الأندلس" الذي يبث على القناة الأولى، والذي رأى فيه الكثير من المتتبعين تمريرا للكثير من المغالطات التاريخية ذات الصلة بشخصية فاتح الأندلس "طارق بن زياد"، ولم تتوقف الحكاية عند عتبات الرفض والاحتجاج، بل وصل صداها إلى القضاء، عقب دعوى استعجالية في الموضوع، تم رفعها في مواجهة الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية التي تبث حلقات المسلسل عبر القناة الأولى.
في هذا الإطار لسنا بقضاة لنوزع صكوك الإدانة والاتهام للجهة التي تبث حلقات هذا المسلسل المثير للجدل، ولسنا بمحامين لنضم صوتنا إلى صوت المحامي الذي استنجد بالقضاء طمعا في استصدار قرار قضائي استعجالي يقضي بإيقاف بث المسلسل، كما لسنا على بينة بالمسالك التي تقطعها الإنتاجات التلفزية وما يرتبط بها من إجراءات قانونية ومسطرية وما تفرضه من ضوابط تقنية وفنية وإبداعية قبل أن تصل إلى الجمهور/المتلقي، لكن في ذات الآن، نرى أن القنوات التلفزية العمومية التي تتحرك عجلاتها بأموال دافعي الضرائب، لابد أن تتحمل كامل مسؤولياتها في بث إنتاجات رصينة وهادفة ترتقي بمستوى الأذواق وتستجيب إلى ما يتطلع إليه الجمهور من حاجيات تثقيفية وتأطيرية وفنية وتوعوية وترفيهية وتربوية، بعيدا عن المشاهد المكرسة لثقافة التفاهة والسخافة والانحطاط، كما تتحمل مسؤولياتها "المواطنة" في صون اللحمة الوطنية وإبراز ما نتقاسم كمغاربة من مشترك تاريخي وتراثي وثقافي وهوياتي.
وإذا كان مسلسل "فتح الأندلس" قد لمس فيه الكثير من المتتبعين تمريرا لمغالطات تاريخية بخصوص هوية "طارق بن زياد"، فنرى أن إنتاجا دراميا ضخما بهذا المستوى وبهذه الحساسية التاريخية، يفترض أن يتم إخضاعه إلى تشريح دقيق يروم التثبت من مدى مطابقة ما يعرضه من وقائع، إلى الحقائق والمعطيات التاريخية الموثقة في عدد من المصادرالتاريخية الإسلامية عموما والمغربية على وجه الخصوص، كما يفترض أخذ رأي ذوي الاختصاص قبل اتخاذ قرار العرض، ونقصد هنا المؤسسات الفاعلة في التاريخ والتراث، فضلا عن المؤرخين المغاربة المتخصصين في تاريخ الغرب الإسلامي وما يرتبط به من فتوحات وتفاعلات وترابطات بين المغرب والأندلس.
الحلقات الأولى للمسلسل، كانت كافية لتحريك رياح الجدل والنقد والاتهام، وكان من المفترض أن تخرج الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية باعتبارها الجهة التي تبث المسلسل، بتوضيحات من شأنها تقديم الحقيقة التي يبحث عنها الجمهور، أو على الأقل الاستعانة ببعض المؤرخين المغاربة لتنوير الرأي العام بخصوص شخصية "طارق بن زياد" وحقيقة هويته التي أسالت لعاب الجدل في عدد من الأوساط، كما أن الجهات المعنية بالثقافة والاتصال من قبيل وزارة الثقافة وقطاع الاتصال والهيئة العليا للسمعي البصري والهيئات الفاعلة في الصحافة والإعلام، كلها تلعب دور المتفرج فيما يجري من جدل يسائل التاريخ الوطني كما يسائل التراث المشترك للأمة المغربية، وهذا الصمت الرسمي غير المبرر، يجعلنا أمام جهات وهيئات وطنية إما أنها منقطعة عما يجري من جدل مجتمعي بخصوص المسلسل المثير للجدل، أو أنها لا تنظر إلى قضايا التاريخ والتراث الوطنيين بما يلزم من المسؤولية والجرأة والالتزام والاحترام، أو أنها تفضل اللعب بخطة الرجوع إلى الخلف في انتظار أن تزول الزوبعة ويسدل الستار عن آخر حلقات المسلسل وتعود حليمة إلى حالتها القديمة، ولا نستثني من هذه الفرجة، برلمان الأمة الذي لم يعد يجد حرجا في الانخراط في نقاشات تافهة مكرسة للبؤس السياسي من قبيل "التصفيق" و"القصف" و"اللغط"، بدل الانشغال بهموم وانشغالات وتطلعات المواطنات والمواطنين.
حماية التاريخ الوطني وصون تراث الأمة المغربية وثوابتها الدينية والوطنية، هي مسؤولية أفراد وجماعات، وبدرجة أولى هي مسؤولية مختلف القطاعات الفاعلة في مجال الثقافة والتاريخ والتراث، وهي أيضا مسؤولية الإعلام الوطني وفي طليعته القنوات التلفزية العمومية التي لابد لها أن تضطلع بأدوارها ليس فقط المهنية بل و"المواطنة" أيضا، في التعريف بالتاريخ الوطني وإبراز الأوجه المشرقة للهوية المغربية المتعددة الروافد، والإحاطة بالشخصيات المغربية عبر التاريخ التي كانت لها إسهامات كبيرة في إشعاع وثراء الحضارة المغربية الضاربة في عمق التاريخ، وهذا المبتغى لن يتأتى إلا بالانخراط في تنزيل محتويات تلفزية رصينة قادرة على النبش في حفريات التاريخ الوطني والسفر بأناقة بين شعاب ومروج تراث الأمة وثوابتها، وبالانفتاح على الإنتاجات الدرامية الهادفة، القادرة على إبراز وتثمين ما يجمعنا كمغاربة من مشترك تاريخي وحضاري وثقافي وهوياتي.
إذا كنا ندرك جميعا أن "مغرب اليوم لم يعد كمغرب الأمس"، فهذا المغرب الجديد، يقتضي الرهان أكثر من أي وقت مضى، على المرجعيات التاريخية والحضارية والهوياتية والتراثية التي تميز الأمة المغربية عن غيرها، لأنها تقوي الإحساس بالثقة والفخر والاعتزاز بالانتماء لهذا الوطن الذي يسكننا ونسكن فيه، وترفع من جرعات العزيمة والإصرار في كسب مختلف الرهانات الآنية والمستقبلية، ومواجهة ما هو مطروح أمامنا من تحديات متعددة المستويات، وهذا يقتضي التعبئة الجماعية والالتفاف حول ما يجمعنا من تاريخ وقيم وثوابت، وإذا كانت مختلف الرهانات والتحديات القائمة، تفرض تملك وسائل "القوة" و"التأثير" و"الإشعاع"، فهي تفرض أيضا، تملك رؤية متبصرة تربط تاريخ الأمة بحاضرها، من أجل عبور آمن ومطمئن نحو مستقبل، لا يؤمن إلا بلغة "النماء الاقتصادي" و"الطموح التنموي" و"البهاء الدبلوماسي" و"الإشعاع التاريخي" و"التأثير الحضاري"، وبين هذا وذاك، باللحمة الوطنية التي لايمكن تصورها إلا عبر تثمين المشترك التاريخي والتراثي والهوياتي، والالتفاف حول ما يربط الأمة المغربية من ثوابت دينية ووطنية، تجد سندها في إرث حضاري ضارب في عمق التاريخ.
وفي انتظار ما سيستقر عليه قرار القضاء بعد التوصل برد الممثل القانوني للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية باعتبارها الطرف المشتكى به، نرى أن "جدل فتح الأندلس"، يسائل في شموليته، صناع القرار التلفزي الوطني من حيث الاختيارات، التي لا تسلم من سهام النقد والاتهام والتبخيس والاستنكار من طرف شرائح واسعة من الجمهور، كما يسائل ما يعرض في شهر رمضان من إنتاجات تلفزية الكثير منها يتقاسم جرعة التواضع والرداءة، وما يتم اقتناؤه من مسلسلات أجنبية تستنزف ميزانيات ضخمة، كان يفترض أن تسخر للارتقاء بمستوى الإنتاج الدرامي الوطني، كما حدث بالنسبة لمسلسل "فتح الأندلس" الذي لم يخلق فقط الجدل التاريخي، بل همش الممثلين المغاربة رغم أنهم الأقرب دون غيرهم من هذا الإنتاج لاعتبارات تاريخية وجغرافية.
وفي جميع الحالات، وبقدر ما نثمن ما أثاره المسلسل من نقاش وجدل متعدد الزوايا وصل حد القضاء، بقدر ما نتساءل لماذا يذوب جليد النقاش والجدل، بخصوص ملفات وقضايا مجتمعية مصيرية تتجاوز عتبة مسلسل درامي لايمكنه حجب المعطيات التاريخية التي وثقتها الكثير من المصادر التاريخية التي تناولت تاريخ الأندلس والمغرب، ويكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أزمة التعليم وحالة الاحتقان التي تعيشها المدرسة العمومية منذ سنوات، وارتفاع نسب الهدر المدرسي، واتساع دائرة الفقر والبطالة والبؤس الاجتماعي وانتشار أحزمة الصفيح والسكن العشوائي وتعمق أزمات المجالات الحضرية والريفية، وتمدد جائحة التفاهة والسخافة التي تمرر طقوسها عبر عدد من وسائل الإعلام، وتدهور منظومة القيم والأخلاق وتدني منسوب المواطنة، وارتفاع مؤشرات الأنانية المفرطة والعبث وانعدام المسؤولية والأنانية المفرطة، واستفحال مشاهد الانحراف والجريمة، واشتداد حمى الأسعار...، وهذه القضايا هي التي يفترض أن تشعل فتيل النقاش المجتمعي وتؤجج جمرة الجدل وتفتح شهية اللجوء إلى القضاء عند الاقتضاء، لكننا نترك كل هذه القضايا الجوهرية وغيرها، ونوجه البوصلة كاملة نحو إنتاج درامي لن يغير البتة الحقائق التاريخية أو يحجب هوية فاتح الأندلس، وفي هذا الصدد، فقد يتوقف بث حلقات المسلسل بناء على حكم قضائي، وقد تستمر حلقاته في العرض حتى آخر حلقة، أما قضايانا ومشكلاتنا وأزماتنا، فستبقى كشاهد عصر حاضرة بين ظهرانينا، دالة على تقاعسنا وتناقضنا وأنانيتنا ونفاقنا...