الجالية تهاجر إلى المزرعة السعيدة..

الجالية تهاجر إلى المزرعة السعيدة..

لحظات كثيرة نجلس أمام المرآة لنتحدث مع أنفسنا، ولننتقدها، ولنكتشف كيف تبدو حركاتنا وتقاسيم وجوهنا في حالات الألم والفرح، وذلك في ما يشبه الخلوة مع الذات.. وفي أحيان كثيرة نعاتبها بقوة، ونقسو عليها، ونعدها بالإصلاح وعدم العود.. في لحظات أخـرى نتأمل مئات المقالات عن الهجرة، ومثلها من الاستنكارات، ومثلها من الاقتراحات، وعدد المؤسسات الوصية على الهجرة وتقاطع اختصاصاتها، ونتيه في شوارع الذاكرة، ونتساءل في شكل استنكاري..

 

حسن شاكر

 

أكيد أن مسؤولي الهجرة لهم خلوتهم مع ذواتهم، ولديهم مرآتهم يكتشفون كيف تبدو بـرامجهم وتقاسيم موظفيهم أمام مغاربة العالم..؟ ولأننا نحترم ذكاءهم، فإننا لا نتصورهم يبتسمون أمام تلك المرآة عندما يكتشفون أن حركاتهم الاستعراضية تُثير غضب البعض وسخرية البعض الآخر.. وعبثا يحاولون تغيير لون البذلة، وعبثا يرمقون بعيونهم في اتجاه المرآة وقد رسموا ابتسامات ملونة تتراوح بين الصفراء والبيضاء.. لا تتبدل الصورة سواء بالنظارات أو بدونها.. يُغير تسريحة الشعر يلتفت يمينا ويسارا، ولكن الصورة لا تتغير... ونُذكره فقط أن تغيير المظهرالخارجي يتطلب بضع ساعات، أما من الداخل فيلزمه الكثير من الوقت، وأيضا الكثير من الجُهد... هاتفه يرن فيما يواصل مشهده أمام المرآة ليكتشف كم هو ممثل بارع، وقد فقدت فيه السينما موهبة فذة... يُجيب على الهاتف، وكأنه أمام محاوره، وهي الصورة الحقيقية لهذا المسؤول الذي لا يحاور إلا نفسه، ولا يُطربه إلا طنين رأسه... ويجيب فقط على من هو نسخة منه تختلف تقاسيم وجهه وحركاته حسب المُتكلم..

العديد من مسؤولي الهجرة في خلوتهم أمام المرآة يظهرون وكأنهم في «كاستينغ» يومي لاختيار الشخصية حسب نوع الاجتماع وأهمية المجتمعين به أو معه..

سيكون ضربا من الجنون إذا عممنا هذه الإسقاطات على مجموع مسؤولي الهجرة، ففيهم الشرفـاء الذين يقبلون النقد ويشجعون عليه ويعتبرونه من توابل الديمقراطية، ويشجعون على المضي قدما...

ولأن المشهد يحمل عنوان الضجيج المنظم، هناك من المسؤولين من كسـر أو قام بتغيير مرآته ظانا أن العيب فيها، رغم أني سمعت من بعض العارفين في مجال «المْراياتْ» بأن هناك إقبال كبير هذه الأيام على مرايا تُخفي العيوب..

لكن الأخطر في علاقة المسؤول مع المرآة هو تصديقها، وأن منظره لافت، وأنه من دونه ستتوقف دواليب مؤسسته.. ويذهب به الاعتقاد إلى حد العشق ليصل إلى النرجسية، وهي حالة متأخرة لا نملك معها إلا أن ننصحه بزيارة أقرب عيادة قبل تدهور الحالة...

يكاد يصاب المهاجر بالذهول أمام المرآة.. فهل العيب فيه أم في مرآته..؟ هل هو حاقد وناقم وناكر للجميل..؟ إذ تُخصص ميزانيات ضخمة لتعليمه اللغة العربية.. في حين هناك موظفون بأجورمضاعفة يقومون بأعمال جبارة يستحقون عليها تحية كـل صباح.. وما خُصص من مئات الملايين لدعم جمعيات مغاربة العالم لتمويل مشاريع خاصة بإفطار رمضان وعيد الأضحى وأنشطة ثقافية وتخصيص ميزانية لنقل جثامين موتاهم، رغم أن الموتى، سامحهم الله، لم يأخذوا بنصيحة ضرورة تأمين جثثهم على قيد حياتهم.. لم ينسـوا السجناء وأغدقوا عليهم العطاء حوالي 100 مليون فقط بإيطاليا، بل حتى المسرح دخل إلى السجن للسجناء.. ساهموا في المساعدة القضائية والاجتماعية.. ويردون على الهاتف في ثاني رنة... «كم أنت ناكر للجميل»، هكذا يخاطب المهاجر نفسه أمام المرآة.. «أعوذ بالله.. الناس خدامة ونْت تتْشكى..». ويقرر تغيير مرآته، لكـن ذاكرته الماكرة ونفسه الأمارة بالسوء تُذكره أن الجالية ساهمت الأسبوع الماضي في نقل جثمان مهاجر شرعي أو غير شرعي.. ويتذكر كم هي عدد الوثائق المسلمة من القنصليات بدون رسم ضريبي.. ويتذكر أن تعليم اللغة العربية مازال قائما منذ نصف قرن، وأن مشاكله رهينة بأجندة حزبية سرعان ما تتغير بوصول حزب آخر إلى مكتب المسؤول.. ويتذكر أنه قـرأ في موقع إلكتروني مشبوه أو في جريدة شعبوية صفراء عن غياب التواصل وحالات الإقصاء واستنكارات وعرائض وتهديد و.. و.. و.. ويتذكر أن بعض القنصليات تُسير بعقلية الضيعات الخاصة، وأن قطيعها ألف الصُراخ والوعد والوعيد.. ويتذكر أنك إما أن تكون مع فريق نافـقْ فوافقْ وإلا فارقْ..

ذاكرته المليئة بالأحلام الموؤودة تمنعه، بل تـُزعجه في تأمل مهاجر في وضع ضاحك أمام مرآته، تغلبه لحظات يأسه، بعد صراخ، أو استنكار.. ويحار في أمر تكسير المرآة لأنها تذكره بواقعه.. عندها يقـرر مُهاتفة المسؤول حتى يتأكد من عدميته و«كافْكاويته»، وأن المسؤول هو فقط ضحية المرحلة.. الهاتف يرن، وهو مازال أمام مرآته يرى نفسه كيف يبدو صغيرا مستعطفا أو شاكيا أو شاكرا.. يُرتب هندامه ويرسم ابتسامة كذابة، وكأنه أمام ذات المسؤول يظل الهاتف يرن ويرن،، يعاود الاتصال ويُبدل تقاسيم وجهه في شكل «بروفة».. الهاتف لا يجيب لأن رقمه يحمل علامة «مُشاغب» في جـوال المسؤول، لتتكلف العُلبة الصوتية بالباقي، ويتأكد أن مرآته صادقة، ويقررالاحتفاظ بها للتاريخ، ويختار منفاه الاختياري في حساب المزرعة السعيدة ليحقق فيها أحلامه في الزراعة وتربية المواشي والكسب والاستثمار، ويهرب من الواقع إلى العالم الافتراضي..

ومع مرورالوقت يكتشف، بالصدفـة، أن نفس المسؤول أصبح شريكه في لعبة المزرعة السعيدة، يلعبان معا ويتبادلان الهدايا والمعاملات، لكن فقط في المزرعة السعيدة، وبأسماء مستعارة، حيث تختفي تلك العلاقة الأفقية وذلك الحوار الأفقي الذي فرضه المسؤول على المهاجر...

فمتى نحتفل بتكسيرالمرايا ونُعلنه يوما وطنيا.. ويصبح الواحد منا مرآة الآخر.. نصوره كما هو، لا كما يريد أن يكون؟؟ ومتى سنغلق حسابات المزرعة السعيدة ونفتح حسابات واضحة شفافة، لأن مشاكل الجالية لا تنتمي إلى العالم الافتراضي؟؟ فمن يوقف رحيل الجالية إلى المزرعة السعيدة..؟ وبصيغة أوضح: «هُـو فـي حَدْ سَامعْ..»؟

(التجمع الديمقراطي للجمعيات المغربية بإيطاليا)