الحبيب فائز: من صراع الأيديولوجيات إلى صراع القوميات

الحبيب فائز: من صراع الأيديولوجيات إلى صراع القوميات الحبيب فائز
هناك أحداث في الساحة الدولية تحور مجرى التاريخ، التاريخ ليس بمعناه الجدلي ولكن بمعناه الأنطولوجي، وتجعل منه محركا لصراع خصوم مفترضين يتحكمون في الأحداث والوقائع لأهداف جيواستراتيجية معينة يتم تحديدها مسبقا.
في نفس سياق الحديث يشكل الصرع الروسي وما نسميه الغرب على الأراضي الأوكرانية، تمظهرا جليا لانتقال الصراع من: زمن الأيدولوجيا التي شكلت في مرحلة سابقة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي إحدى سماته البارزة، أي صراع بين معسكر ينهل من قيم الفلسفة الماركسية وكل روافدها، وآخر ينهل من قيم يوتوبيا الفلسفة الليبرالية. وزمن آخر يتشكل من جديد بعد سقوط حلم الاشتراكية التي قادها وتزعمها الاتحاد السوفياتي، وقوده القومية بكل حمولاتها السياسية، الدينية، الهوياتية واللغوية.
ليس الحديث هنا عن ظاهرة منعزلة أو منفردة، بله بزوغ أقطاب جديدة ممانعة لنظام الأحادية القطبية الذي تقوده لثلاث عقود الولايات المتحدة الأمريكية، إنها نزوعات دول أخرى تبحث عن فرض ذاتها على الساحة الدولية من منطلق هوياتي وسياسي وبأدوات إما: اقتصادية، عسكرية، ثقافية أو دينية.
ومن بين هذه الدول التي خرجت من مرحلة البناء الداخلي مرتكزة على عناصرها الثقافية الداخلية إلى محاولة فرض نفسها على المعترك الدولي نجد: الصين الشعبية كثاني أكبر قوة اقتصادية وثالث أقوى الجيوش العسكرية في العالم وتملك حق النقض بمجلس الأمن (الفيتو) التابع للأمم المتحدة، وتنهل الصين من العناصر الثقافية الماوية والهان ذات الروافد الكونفوشيوسية. وتظل روسيا حاضرة بقوة على الساحة الدولية بسبب نفوذها التاريخي على كثير من دول شرق آسيا وكقوة نووية ونفطية عالمية، والارتباط الوثيق بثقافة السلاف الشرقيين وبالماضي السياسي الكبير ذو الروافد القيصرية والسوفياتية. بالإضافة إلى الصين الشعبية وروسيا الاتحادية، برزت إيران الإسلامية كعنصر مؤثر بشدة على الأحداث في العالم من خلال سياستها في تصدير عناصر الثورة الإيرانية لسنة 1979 بقيادة الخميني، وقد أتيحت لها أول فرصة بعد سقوط بغداد على أيدي الأمريكيين سنة 2003، وبعد ما يطلق عليه بالربيع العربي، حيث سيطرت عن طريق وكلائها على مجموعة من العواصم العربية ومن بينها: بغداد، بيروت، دمشق وصنعاء. إن حضور إيران الأخير مرتبط أولا بتكاثف العناصر الثقافية الزرادشتية والفارسية، وكذا العناصر الدينية الشيعية الاثني عشرية. بالإضافة على هذه الدول يمكن الحديث في ذات السياق عن الطموحات المتزايدة للهند الشعبية وكوريا الشمالية في نفس سياق تسارع وتحول مجرى الصراع على الساحة الدولية.
في مقابل دول الشرق القومية الصاعدة هل يمكن الحديث عن ثقافة موحدة للغرب الأوروبي والأمريكي؟ إنه سؤال يدفع في اتجاه البحث عن العناصر الثقافية وحتى التشكل القومي لما نسميه اليوم بالغرب.
منذ القرن 18، سادت في الغرب الأوروبي والأمريكي عناصر ومحددات جعلت من: الليبرالية منهج سياسي، والرأسمالية اختيار اقتصادي، والحداثة كمحدد ثقافي. إنها العناصر التي مجدت حرية الملكية، وكرست الفردانية، وجعلت من القيم الديمقراطية وفصل السلط وحقوق الإنسان مدخلا أساسيا لبناء الدولة الوطنية. وجعلت من الغرب قطبا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وحتى عسكريا (بناء حلف الناتو) عالميا وموحدا تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وتحاول فرضه على كل دول العالم بما فيه دول الشرق في تحد/تصادم مباشر مع العناصر الثقافية الأخرى لباقي دول العالم. وهو ما أدخل العالم في مرحلة صراع للحضارات كما اصطلح على ذلك صموئيل هنتغتون.
هل نحن إذن أمام بروز جديد لتقابلات التاريخ التقليدية بين الشرق والغرب تجاوز الأيدولوجيا إلى القومية؟ إن محاولة الغرب الأوروبي والأمريكي فرض منطق سياسي وثقافي واقتصادي ينهل من الليبرالية والرأسمالية والحداثة على كل دول العالم، بمثابة مؤشر لباقي الدول القومية ذات النزوعات الثقافية والسياسية والتاريخية الإمبراطورية، حيث تعمل –هذه الدول- من جهة أولى على بناء الدولة القومية من خلال الاستثمار في العناصر الثقافية الداخلية، ومن جهة أخرى على بناء تحالفات مع دول أخرى لها نفس الهواجس من الغرب الأوروبي والامريكي.
إن هذه الهواجس، هو ما جعل بناء تحالفات بين روسيا الاتحادية والصين الشعبية وإيران الإسلامية وكوريا الاشتراكية ممكنا بل خيارا استراتيجيا لهذه الدول مبني على العداء الكبير للغرب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
 
الحبيب فائز، باحث في سلك دكتوراه الدراسات الدستورية بمختبر السياسات العمومية بكلية الحقوق بالمحمدية