التعليم في "الجامَعْ " بين سندان سلطة "لَفْقِيهْ" وغياب تحديث طرق التعليم

التعليم في "الجامَعْ " بين سندان سلطة "لَفْقِيهْ" وغياب تحديث طرق التعليم أحمد الحطاب مع صورة قديمة لجامع في الهواء الطلق بإحدى القرى المغربية

في زمن تكنولوجيا الرقميات، والتطور الحاصل الذي يعرفه حقل التربية والتعليم، بوسائل تقنية جديدة وبيداغوجية تنتصر للتكوين المستمر باستعمال وسائل ديداكتيكية عصرية، تنتصب عدة أسئلة حول مؤسسة التعليم التقليدي بفضاءات المدارس القرآنية (جَّامَعْ/ لَمْسِيَّدْ) التي تعتمد على سلطة المُدَرِّسْ (لفقيه)؛ على اعتبار أن طفل اليوم يحتاج إلى تفجير مواهبه ومهاراته وذكائه دون إكراه أو قهر يحد من فضوله المعرفي.

فهل نجح التعليم الممارس في المدرسة القرآنية (جَّامَعْ/ لَمْسِيَّدْ) في الاستجابة لحاجيات الطفل، وبالأخص إلى نمو قدراته على بناء المعرفة وتفتّح شخصيته؟ ما هي النتائج المرضية والحصيلة النفسية والتربوية والمعرفية عند الطفل الذي يغادر (جَّامَعْ/ لَمْسِيَّدْ) نحو المدرسة، في ظل الظروف البيداغوجية غير الملائمة المحيطة بفضاء (لَفْقِيهْ) والمتمثلة على سبيل المثال لا الحصر في العقاب البدني وسلطة الإكراه، والقهر...؟

وما هي الانعكاسات السلبية على الطفل، في غياب التكوين البيداغوجي لدى المُدرّس/ لَفْقِيهْ، وتواطؤ "جهل" الآباء/ الأسرة في سياق الجو الخرافي والنمطية السائدة بـ (جَّامَعْ/ لَمْسِيَّدْ) وداخل المجتمع؟ هل مازالت الحاجة قائمة إلى هذا النوع من التعليم التقليدي الذي يصفه معظم الباحثين المتخصصين والمراقبين بـ "تعليم سلطوي إكراهي ودوغمائي لا يترك مجالا للتشكيك وفضول الطفل الذي يخضع لتعليم قهري على حساب نمو شخصيته وصفاته وذكائه"؟

هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها الأستاذ أحمد الحطاب المتخصص في علوم التربية، من خلال هذه الورقة:

 

يتردَّد على المدرسة القرآنية الأطفالُ البالغة أعمارُهم خمس سنوات فما فوق، والمراهقون علما أنه، من الممكن، أن نجدَ في نفس المدرسة أطفالاً جدُداً من مختلف الأعمار وتلاميذ قدماء بلغوا أو تجاوزوا سنَّ الرُّشد. أما المدةَ التي يقضيها التلميذ في المدرسة القرآنية التَّقليدية غير محدودة وتستغرق سنتين بالنسبة للمدرسة القرآنية المتجدِّدة. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الولوجَ إلى المدرسة القرآنية المحافظة غير مسموح به للفتيات في بعض المناطق.

إن مهمَّة المدرس التقليدي هي تحفِيظ القرآن للأطفال عن ظهر قلبٍ مع تعويدهم على الكتابة وبعض التَّعاليم الدينية؛ على اعتبار أنه في أول الأمر، يتعلَّم الطفلُ الحروفَ الهجائية ثم الكتابةَ. وعندما يتمكَّن من الحروف والكتابة، يصبح الطفلُ بإمكانه نقل آيات القرآن من المصحف إلى اللوحة من أجل حفظها.

 

وتعلُّمُ الكتابة يتم بشكل فردي بينما المواد الأخرى تُلقَّن بشكل جماعي؛ حيث يلحُّ المُدرّسُ على أن يقرأَ كل طفلٍ لوحتَه بصوتٍ مرتفعٍ، علما أن هذا المُدرّسَ لن يتردَّدَ في استعمال عصاه لتوجيه الأعين الشاردة نحو اللوحات.

 

أثناء كل حصَّة، يدعو المدرّسُ التلاميذ، الواحد تلو الآخر، ليتلُوَ عليه عن ظهر قلبٍ درسَ اليوم. التلاميذ الذين حفظوا الدرسَ حفظا متقنا، يُطلق سراحُهم بينما الآخرون، إن لم يُعاقبوا جسديا، عليهم المكوثَ وقتا أطول حتى يتمكنوا من حفظ الآيات المكتوبة على اللوحة.

أما مهمة مُدرّس المدرسة القرآنية المتجدّدة، فإنها تتمحور حول تعليم الكتابة والقراءة وتحفيظ القرآن والنحو والحساب وبعض مبادئ المُحادثة… علما أن هذه الأنشطة الهدف منها هو تحضير الطفل لولوج المدرسة الابتدائية. كما يمكن أن ينقلَ للأطفال بعض مبادئ التربية الوطنية، والأخلاقية، والدينية... كما يعوِّد الأطفالَ على بعض الأشغال اليدوية وكذلك على بعض الأناشيد.

 

وللتذكير، إن فئةَ الأطفال المتردِّدين على المدرسة القرآنية المحافظة، تنقسم  إلى شطرين:

- الأطفال الذين يقضون اليومَ بأكمله في المدرسة القرآنية، أي ما يعادل 10 ساعات تقريبا؛

ـ الأطفالُ الذين يتردَّدون على المدرسة القرآنية قبل و بعد ما يقضونه من وقتٍ في المدرسة العمومية العصرية، أي ما يتراوح بين 4 و5 ساعات في اليوم. وفي كلتي الحالتين، التَّردُّد على المدرسة القرآنية يُعدُّ التزام أراده الآباء.

 

المدرسة القرآنية: الجانب الاجتماعي

يلعب المدرس التقليدي دورا اجتماعيا من الأهمِّية بمكان. دورٌ يمكن لمسُه على عدة مستويات؛ حيث يعتمد الآباءُ على المدرس لتربية أبنائهم، تربية يجب أن تستمدَّ وجودَها من القرآن الكريم الذي، حسب ما هو متداولٌ، يطفئ الغضبَ الإلاهي. كما عليه أن يعلِّمَ التلميذَ كل الصفات التي تمكِّنُه من العيش بين الكبار:

ـ احترام الأبوين والسلطات والأعيان وكبار السن؛

ـ إظهار متطلبات الإيمان، معرفة ما تتطلبه الصلاة من طقوسٍ؛

ـ الاتصاف بالكرَم والتواضع...

 

وعلى المستوى الحياة اليومية، وبالأخص في العالم القروي، يغسّل المدرس ويدفن الأموات ويقرأ القرآن على قبورهم. يؤمًّ المصلين ويذبح الأضحيةَ يوم عيد الأضحى. ويتضرع إلى الله أو إلى الأولياء في حالة تهديد حياة الأشخاص أو المجتمع؛ وعلى سبيل المثال، عندما يعمُّ الجفافُ أو في حالة ولادةٍ صعبة...

 

وهذا هو ما يجلب له الاحترام و التقدير والمساندة المادية من طرف المجتمع. والمساندة تتم آما نقدا وإما عينا. حيث يتلقى (المدرس/ الفقيه) مساعدةً نقديةً كل أسبوع وأحيانا سنوية. كما يتلقى مساعدةً عينية تتمثل في القمح والبيض والدجاج والزبدة والصوف... وقد تصل هذه المساعدة إلى الاستفادة من حصيلةِ حقلٍ تبرَّع به أحد الآباء.

 

المدرسة القرآنية: الحصيلة والتَّطلُّعات

في الوقت الراهن، تتعرَّض المدرسة القرآنية لمنافسة قوية من طرف روض الأطفال؛ من جراء تشبثها بالفكر التقليدي والمحافظ، وبقيت المدرسةُ القرآنية على ما هي عليه؛ والتي، على ما يبدو، تصبو إلى التَّقدُّم بالعودة إلى الأصالة وذلك رغم ما طالها من تنظيمٍ قبل تعميم التعليم العمومي العصري.

وذلك لأن انجازاتِها تكاد تنحصر في طاعة المُدرّس واستظهار المعرفة، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن النتائج التي حصل عليها التلميذُ بعد خروجه من المدرسة القرآنية. ماذا تبقَّى من كل ما تعلَّمه؟ بعض الآيات القرآنية و بعض مبادئ التربية الأخلاقية والدينية و مبادئ بسيطة في النحو والحساب.

لكن عندما نتوقَّف عند الطريقة (بيداغوجيا) التي تلقى بها التلميذُ هذه المعارف، فليس بالغريب أن نلاحظَ أنه، بعد مرور الوقت، لم يتبقَّ في ذهن هذا التلميذ إلا الشيء الضئيل. وذلك لأن الطفلَ، بحكم خوفه من سلطة المُدرّس وتلك التي يمارسُها عليه الآباءُ بالمنزل، لا يدَّخر أي جُهدٍ لحفظ دروسِه. وخوفُ الطفل هذا مُبرَّرٌ لكون التقويم ينحصرُ أساساً على معيار الحفظ والاستظهار عن ظهر قلبٍ.

 

أما التعليم، فهو سلطوي، إكراهي ودوغمائي لا يترك مجالاً للتشكيك وفُضول الطفل. هذا الأخيرُ يخضع لتعليمٍ قهري على حساب نمو شخصيتِه وصفاته وذكائه.

والمدرس الذي يلقى دعما مطلقا من الآباء والمجتمع، يُخيَّل له أنه كوَّن الأطفالَ تكويناً صائباً وقد يصل به الأمرُ إلى الافتخارِ بنجاعة العقاب الجسدي والإكراه. ويمكن أن نذكرَ عدة عوامل التي ساهمت في تطوُّر هذا الوضع الذي، من حُسن الحظ، أصبح نادرا.

 

من بين هذه العوامل، تجدر الإشارةُ إلى:

ـ غياب التكوين البيداغوجي لمدرس المدرسة القرآنية

ـ الجهل الجزئي أو الكلي للآباء

ـ الجو الخرافي والنمطية اللذان يحيطان بالمدرسة القرآنية داخل المجتمع

ـ عدم وعي المدرس والثقة المبالغ فيها إزاء نجاعة تعليمه...

 

إن المدرسة القرآنية لم تنجح في الاستجابة إلى حاجيات الطفل، وبالأخص إلى نمو قدرتِه على بناء المعرفة  développement cognitif  وتفتُّح شخصيتِه، وذلك لأن التعليمَ الممارسَ في المدرسة القرآنية، لا يأخذ بعين الاعتبار سنَّ الطفل.

ومن جهة أخرى، تجدر الإشارةُ إلى أن المتردِّدين على المدرسة القرآنية غالبا ما لا ينتمون إلى الطبقة الميسورة التي تبعث أبناءَها إلى روض الأطفال. ولهذا، يجب أن لا يُنتظرَ من المدرسة القرآنية نتائجٌ مُرضيةٌ عند الطفل الذي غادر هذه المدرسة القرآنية لأن الظروفَ المادية والبيداغوجية غير ملائمة (أماكنٌ ضيقة، غياب التكوين البيداغوجي، تهميش القدرات الفكرية للطفل، عقاب جسدي، إكراهٌ، قهرٌ)...