منذ مغادرته لرئاسة الحكومة، ظل عبدالإله بنكيران وفيا كل الوفاء لخطاب جدلي تتحكم فيه مفردات القصف والهجوم والاتهام وتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين الواقعيين والافتراضيين، ما ظهر منها وما بطن، إلى درجة أن كل خرجاته الواقعية كما الافتراضية، باتت فرصا سانحة لممارسة لعبته المفضلة في القنص/القصف لأسباب وغايات، نترك النبش في حفرياتها لمن يجيد مهارة النبش ويتقن قدرة الحفر.
مدفعية بن كيران التي لا تعرف اليأس أو التراجع أو الكلل والملل، وجهت فوهتها في وجه عدد من الخصوم في مناسبات كثيرة يصعب الإحاطة بها، نال زعيم الحمامة النصيب الأوفر فيها، لكن يبدو أن شهية الرجل في القصف والتسديد لم تتوقف عند عتبة الخصوم السياسيين بيمينهم ويسارهم ووسطهم، بل امتدت خارج المعترك السياسي، كما حدث مع إحدى المدونات التي نالت نصيبها من خراطيش زعيم المصباح، وقد ردت المعنية بالأمر الجميل بالجميل، وسخرت كل ما تملكه من سهام ونبال لقصف الرجل، لعلها تشفي الغليل وتصفي حساباتها معه.
وهذا معناه أن براعة وشطارة "سي عبد الإله" أضحت بدون قيود أو حدود أو بدون "حصارات" على الأصح، إذ لم يعد الرجل يميز بين الحزب والأتباع والخصوم السياسيين والدولة والمجتمع والأفراد والجماعات، بل وتحركت عجلات مدفعيته المثيرة للجدل نحو الصحافة الوطنية، عبر جريدة "الأحداث المغربية" التي لم تسلم من تذوق "القصف البنكيراني"، بعدما هاجمها الرجل بقوة وجرأة وشراسة، بمناسبة الدورة العادية للمجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، المنعقدة يوم السبت 19 فبراير 2022، حيث لم يتردد في نعتها بالجريدة "الصهيونية" و"المدسوسة".
الأستاذ عبدالإله بن كيران، كان عليه أن يكمل عملية القصف حتى آخر خرطوشة، بأن يوضح لنا ككتاب رأي وكقراء ومتتبعين للصحافة الوطنية بكل تمظهراتها، قصده بكلمة "صهيونية" ويشرح لنا بلغة الأقراص والخشيبات من يقف وراءها ومن يتحكم في أزرار هذه "الجريدة الصهيونية" على حد وصفه، وحتى إذا ما تم القبول بهذا التوصيف - من باب الافتراض -، فمعنى هذا أن الصحافة الوطنية "مشكوك في أمرها" وبعضها "غير وطني" تتحكم فيه "أجندات خاصة"، وهذا الدفع، لايمكن البتة القبول به مهما كان المبرر، اقتناعا منا بوطنية الصحافة المغربية بكل مستوياتها، وإيمانا منا بضرورة تقوية الجبهة الإعلامية الداخلية "المهنية" و"الأخلاقية" لتكون في مستوى ما يواجه الوطن من رهانات تنموية ومن تحديات خارجية مرتبطة بشكل خاص بقضية الوحدة الترابية.
أما القول بأن الجريدة هي "مدسوسة"، فقد كان على الأستاذ عبدالإله أن ينور عقولنا "الصغيرة" التي لا تسع خرجاته وقصفه المدوي، حتى نكون على بينه واطلاع بمن "دس" هذه الجريدة في جسد صحافتنا الوطنية ؟ وكيف نقتنع بهذا الطرح، وهي "مكشوفة" خاضعة لمقتضيات قانون الصحافة والنشر المغربي، وخطها التحريري "مكشوف" للعيان، ومن يتولى إدارتها وتسييرها "مكشوف" بلحمه وشحمه، بل وكيف يغيب عن أعين السلطات أمر جريدة "صهيونية" و"مدسوسة" ؟ وعليه لايمكن إلا رفض تصريحات مجانية من هذا القبيل، لما فيها من إساءة لمنظومة الصحافة والنشر ومن تبخيس لمهامها المجتمعية النبيلة، ومن تشكيك في وطنية جريدة ورقية تعد واحدة من بين أكثر الجرائد الورقية المغربية قراءة ومتابعة.
ولم تتوقف فوهة بن كيران عند حدود اتهام الجريدة بالصهيونية والمدسوسة، بل وتجاوزت ذلك إلى مستوى اتهام مواقفها بالوقوف ضد القيم والأخلاق، وهذا الرأي مردود، لأن قوة المجتمع المغربي تكمن في تنوعه واختلافه وتسامحه وتماسكه، وفي ارتباطه الوثيق بثوابته الدينية والوطنية وقيمه الاجتماعية والإنسانية، وكلها قيم لايمكن البتة أن تزحزحها جريدة أو يحركها قلم أو تخضع لوصاية زعيم أو مفكر أو داعية.
وإذا ما تركنا كل ما صدر عن زعيم البيجيدي من اتهامات خطيرة لجريدة "الأحداث المغربية"، لابد من التذكير أن الرجل، بات اليوم شخصية سياسية وطنية بعد أن تحمل مسؤولية رئاسة الحكومة المغربية، ويشغل حاليا منصب الأمين العام لحزب سياسي له مكانته في المشهد السياسي الوطني، وهذه المكانة تفرض التحلي بما يلزم من شروط المسؤولية والتحفظ والوقار والالتزام والابتعاد عن التجاذبات والصراعات الخفية والمعلنة، أسوة بما قام به رؤساء حكومات سابقين من أمثال عباس الفاسي وقبله الراحل عبدالرحمان اليوسفي الذي غادر الحكومة وعاش بسيطا وعفيفا بعيدا عن الأضواء والنجومية، وبمعزل عن جاذبية وإغراءات الريع السياسي، فنال الاحترام والتقدير والمحبة، إلى أن غادرنا إلى دار البقــاء رحمه الله.
وفي هذا الإطار، لسنا بصدد تقديم الدروس أو الوعظ والإرشاد للأستاذ عبدالإله بن كيران، فهو أكبر من أن يقدم له درس أو موعظة أو إرشاد، لكن في ذات الآن، كمتتبعين للشأن السياسي الوطني وكمواطنين، نعيب على الرجل هذه الخرجات "غير المتحكم فيها"، والتي تسيء لمكانته كرئيس حكومة سابق، وتمس بصورة حزبه بصفته أمينا عاما، بكل ما لهذه الخرجات من تبخيس للعمل السياسي وفقدان الثقة في الأحزاب السياسية، ومن تأثيرات جانبية على سمعة وشعبية حزب العدالة والتنمية الذي لازال يطارده شبح السقوط الكبير، ويحتاج أكثر من أي وقت مضى، إلى عين العقل وصوت الحكمة، بعيدا عن التجاذبات "الفولكلورية" التي لا تزيد الحزب إلا تواضعا ونفورا.
ولسنا أيضا بصدد الدفاع عن جريدة "الأحداث المغربية" التي لا تتجاوز علاقتنا بها حدود نشر ما نكتبه فيها من مقالات رأي على غرار مجموعة من المنابر الإعلامية الوطنية والدولية، بل وليست لنا أية معرفة مسبقة بمن يسهر عليها من المسؤولين والصحافيين إلا الأسماء التي نطلع عليها كغيرنا، في صفحات أعدادها، وإذا ما دافعنا عنها بقصد أو بدونه، فلأننا ندافع من خلالها، عن الصحافة الوطنية المهنية والأخلاقية، وندافع عن الحق في الرأي والاختلاف والتعايش بعيدا عن جائحة الوصاية والإكراه والإقصـاء، وفي هذا الإطار نعلن أننا لسنا ضد "عبدالإله بن كيران" ولا مع جريدة "الأحداث المغربية"، وإذا قادنا قلمنا للكتابة في الموضوع، فلأننا ندافع عن حقنا كمواطنين في ملامسة مشاهد المسؤولية والتحفظ والاتزان والالتزام في سلوكات وممارسات المسؤولين الحكوميين السابقين، وفي تلمس معالم صحافة وطنية حقيقية قادرة على تحمل مسؤولياتها المواطنة في التوعية والتأطير والرفع من مستوى الأذواق ومحاربة كل مشاهد العبث والفساد والانحطاط، كما ندافع عن حقنا في العيش المشترك في وطن آمن ومطمئن ومستقر بعيدا عن كوفيدات الوصاية والإكراه.
جريدة "الأحداث المغربية" لم تقابل القصف بالقصف ولم تواجه الهجوم بالهجوم، واكتفت بوضع شكاية في الموضوع في مواجهة الأستاذ "عبدالإله بن كيران" وأمين عام حزب العدالة والتنمية، تم توجيهها على التوالي إلى كل من رئيس المجلس الوطني للصحافة في شخص السيد يونس مجاهد، ورئيس النقابة الوطنية للصحافة في شخص السيد عبدالله البقالي، وهي الشكاية التي نشر نصها الكامل في عدد يوم الاثنين 21 فبراير 2022، ونضن أن إدارة الجريدة اختارت المسلك الصحيح، لأنها لم تنغمس في معارك "عبثية" لا يمكن إطلاقا القبول بها في مغرب اليوم، الذي يحتاج إلى جبهة داخلية واحدة وموحدة، وإلى مؤسسات وطنية قوية ذات مصداقية، قادرة على الترافع عن المصالح العليا للوطن وقضاياه المصيرية، وإلى مسؤولين حقيقيين يتبارون بروح مواطنة في بناء الوطن، لا إلى مسؤولين يعبثون بجسد الوطن بدون خجل أو حياء ...