بعد الإقصاء المخيب للآمال لأسود الأطلس أمام فراعنة مصر في دور ربع نهاية كأس إفريقيا للأمم الجارية أطوارها بالكاميرون، فقدنا الشهية الكروية تماما، ولم تعد لنا القدرة الكافية للتكدس مرة أخرى في المقاهي ككباش العيد، لمتابعة ما تبقى من طقوس العرس الكروي الإفريقي، بعيدا عن أسود أطلسية وقفت في دور الربع كما وقف حمار الشيخ في العقبة، وعادت من حلبة التباري الإفريقي -كما ألفناها طيلة عقود- بخفي حنين، وسط عاصفة من اللغط والجدل، تقتضي إشهار سيف "ربط المسؤولية بالمحاسبة" من باب "حماية للمال العام".
وفي هذا الإطار، وبما أننا أسرى الكرة الساحرة، وكل أحاسيسنا تذوب كالجليد في أجواء مباريات كرة القدم، لم نجد من بديل أو خيار سوى اللجوء الاضطراري إلى متابعة ما يجري داخل قبة البرلمان من مباريات حارقة تقدم لعموم الجمهور، فرجة مجانية لا تقل عن طقوس الكان الإفريقي إثارة وصخبا ولغطا وجدلا وترقبا وتربصا وأهدافا غاية في الإثارة والتشويق، وهذه الطقوس حضرت بما يكفي من الحرارة والحماسة في مباراة الجلسة الدستورية التي عقدت بعد زوال يوم الاثنين 31 يناير بمجلس النواب، بمناسبة جلسة دستورية خصصت لمساءلة رئيس الحكومة عزيز أخنوش، حول موضوع "السياسة الثقافية".
مباراة حارقة اختلط فيها الحابل بالنابل، ولم نعد كجمهور نميز بين من يدافع ومن يهاجم، ومن يقصف ومن يتلقى الضربات الموجعة، ومن يتربص ومن يتفرج ومن هو خارج التغطية، حضرت الخطط التكتيكية الصارمة، وغاب اللعب الجماعي، وحضرت أساليب القصف والقصف المضاد، واختلطت أوراق اللعب، إلى درجة أن حكم المباراة أو رئيس الجلسة، وجد صعوبة في كبح جماح اللاعبين/النواب الغاضبين والمتمردين، وبدل إشهار البطاقات الصفراء والحمراء، حاول الاستنجاد بمقتضيات النظام الداخلي لفرض الهدوء والنظام في ظل ارتفاع جرعات اللغط، في مباراة غاية في الصرامة التكتيكية، أشعل فتيلها اللاعب المخضرم "أوزين" عن الفريق الحركي، الذي وبدل الانضباط لموضوع اللعب المتفق عليه -السياسة الثقافية-، قادته حماسته إلى استغلال مهاراته في القصف وتقنياته الفائقة في الضرب تحت الحزام، وكأنه يريد أن يسجل أكبر عدد من الأهداف في مرمى "رئيس الحكومة" حتى يتوج بجائزة الهداف التاريخي للبرلمان المغربي، ونظن أن اللاعب الحركي كان مزهوا وهو يوزع صكوك القصف يمينا وشمالا، وكأنه يحاول أن يطرد لعنة "الكراطة" التي مازالت تلازمه كالطيف، ويبدو أن "الكراطة" لم تزد الرجل إلا صلابة وإصرارا على ركوب موجة القصف لتصفية الحسابات ما ظهر منها وما بطن.
وفي ظل ما لازم أطوار الجلسة من "تسيب كروي" ومن تمرد واضح على النظام وقواعد اللعب المتفق عليها، باتت "السياسة الثقافية" التي فرضت مساءلة رئيس الحكومة، باتت كضيف ثقيل غير مرغوب فيه، في مباراة برلمانية صاخبة، تحكمت فيه خطط "القصف"، إلى درجة أن "البرلماني الشاعر" أو "الشاعر البرلماني" صاحب مقولة "جش عش هش..."، حاول مرة أخرى سرقة الأضواء البرلمانية والإعلامية، وهو يوظف عبارات مماثلة حضرت فيها طقوس الغرابة مرة أخرى، إلا أن العبارات التي أخرجها من مخزونه اللغوي، تبخرت، في ظل ارتفاع حرارة القصف والصخب والفوضى، وهذا الواقع البرلماني، يفرض على شاعر "القبة البرلمانية" تغيير النهج التكتيكي، بالحرص على أناقة وأصالة وكبرياء ما يطرحه من تعابير لغوية أصيلة، يمكن أن يكون لها موضع قدم في "بيت الشعر" أو في "مقهى أدبي"، إلا البرلمان الذي بات له "شعر" غير الشعر و"نثر" غير النثر و"قاموس" غير القاموس و"خطاب" غير الخطاب ...
لم تقدم المباراة البرلمانية كسابقاتها، ما كان ينتظره الجمهور السياسي والإعلامي وعموم المواطنين، من انضباط والتزام ورصانة وتبصر، ولم تحقق ما كان منتظرا منها على مستوى الجودة والأداء والنتيجة، لتنتهي بالتعادل السلبي لا غالب ولا مغلوب، لكنها زادت من جليد القصف وتصفية الحسابات صلابة، ورفعت من جرعات العناد والخلاف والتربص، بين من ينتمي إلى معسكر "الأغلبية" الموالية لحكومة التحالف الثلاثي، وبين من يتربع في خندق "المعارضة" التي باتت فرقا وشيعا، ووسعت دائرة النفور والصدام بين "الكراطة" و"التقاشر" وسط محاولات خجولة من أصحاب "لامبا" لتكسير خطط التسلسل، وتسجيل أهداف، تبدو صعبة المنال والإدراك، في ظل غياب الوسائل والخطط التي كانت متاحة حتى الأمس القريب، دون إغفال مناورات أصحاب "الوردة" و"الكتاب"، الذين لا مناص لهم اليوم، إلا توحيد الصفوف ووضع خطط رفيعة، تسمح بالتموقع المتقدم، في مشهد برلماني وسياسي يعيش على وقع التشتت والصخب واللغط.
إنها مباراة "الكان في البرلمان"، التي ينشغل لاعبوها في إنتاج تشريع العبث واللغط والعناد والصدام، محولين القبة البرلمانية إلى ما يشبه "حلبة الملاكمة" التي تفتح شهية العابثين والمتواضعين وكل من يجيد هواية "القصف" و"تخراج العينين" و"التسنطيحة"، تاركين قضايا وانتظارات المواطنين في كرسي الاحتياط، وكنا نأمل، أن يكـون ما تخلل جلسة "السياسة الثقافية" من لغط وقصف وهجوم وهجوم مضاد، ومن هستيريا وانفلات، من أجل المواطنين الذين يعيشون طقوس الفقر والعوز والهشاشة القاتلة، من أجل ساكنة الجبال التي تعاني الويلات كلما أقدم الشتاء، في غياب تام لأبسط شروط العيش الكريم، من أجل تحسين مستوى المدرسة العمومية وتجويد الخدمات الصحية والسكن والنقل والشغل والطرق والتجهيزات ...، من أجل إيجاد الحلول الممكنة للجريمة الأخذة في التمدد والانتظار، لكن اللاعبين البرلمانيين، يناضلون ويتدافعون، من أجل حب الظهور وقصف الخصوم واستفزازهم. ونختم بدعوة هؤلاء، لإعادة متابعة حلقة برنامج "خمسة وأربعين دقيقة" التي تم بثها يوم الأحد 30 يناير الماضي على القناة الأولى، حول موضوع "المرضى العقليين والنفسيين"، لمعاينة مشاهد بل مآسي اجتماعية وإنسانية تعيشها الكثير من الأسر المغربية، وسط صمت رسمي ومجتمعي وإعلامي، في الوقت الذي ينشغل فيه لاعبو البرلمان بالقصف الممل... على أمل أن نتابع في قادم المناسبات، مباريات برلمانية حارقة ومسؤولة، تخضع لخطط الانضباط والتباري الشريف والأداء الرصين، خدمة للمواطنين وحرصا على مصالح الوطن وقضاياه المصيرية، في إطار من الهدوء والاحترام المتبادل والقبول بالاختلاف، بعيدا عن جائحة الأنانية وحب الظهور والمبارزات الفاقدة للبوصلة...