قبل أيام، سرق نائب برلماني الأضواء، أثناء مداخلة له بمجلس النواب طالب من خلالها الحكومة في أن تكون "حكومة قوية قادرة مقتدرة .. حكومة جش عش هش بش، لا حكومة كش مش نش"، وهذه العبارات الموزونة، كانت كافية لتسيل لعاب الجدل وتفتح شهية الباحثين عن مشاهد اللغط والإثارة في المسرح البرلماني والسياسي بشكل عام، لإنتاج محتويات تحقق مستويات مقبولة من المشاهدة والمتابعة، في زمن سياسي وإعلامي وإبداعي انحنت فيه القيم كما تنحني السنابل أمام محراب الربيع الحالم، وتواضعت فيه الأقلام كما يتواضع الزهاد أمام منبر المناجاة، وتقلصت فيه مساحات الجودة والالتزام، في ظل الهيمنة المطلقة لإمبراطور "البوز" الذي وجد لنفسه موضع قدم في معترك السياسة، بل وامتدت سلطته الكاسحة إلى داخل قبة البرلمان.
العبارات التي أطلقها النائب البرلماني، بقدر ما نجد لها "شرعية" لغوية إن جاز التعبير، بقدر ما نتساءل هل استنفد المعني بالأمر كل زاده اللغوي ومخزونه التعبيري، حتى يستنجد بعبارات مثيرة للجدل والغرابة من قبيل "جش".."عش".."هش".."بش" .."كش".."مش".."نش" ؟ إذا كان القصد الذي حرك في الرجل ملكة اللغة وقريحة التعبير، هو توجيه رسالة "محرجة" للحكومة التي لم تستوف وقتها حاجز المائة يوم على تنصيبها ودوران عجلتها، فنرى وهذا رأي يلزمنا، أنه لم يوفق في اختياره اللغوي ولم يفلح في نهجه التعبيري، فلا هو أحرج الحكومة ولا هو أوصل "خبز" الرسالة إلى "الفران"، وكل ما صنعه، أنه أثار حالة من الجدل حركت بعض الأقلام البارعة في النبش في تضاريس الإثارة، وفتحت شهية صناع العبث واللغط للركوب على الموجة في بحر إعلامي وسياسي رتيب، وكرست الصورة النمطية للبرلمان في أذهان المتتبعين للشأن السياسي والإعلامي وعموم المواطنين، مرادفة للفتور والتواضع والعراك والعناد والقصف...
عبارات النائب البرلماني، وإن كانت تستند إلى أرضية لغوية، فهي تعد مرآة عاكسة لما بات يتخلل واقع الممارسة البرلمانية من مظاهر التواضع اللغوي والانحناء السياسي والبؤس التشريعي، ومن مشاهد الصراع الخفي والمعلن، والعناد والإقصاء واللغط والقصف والضرب تحت الحزام، وكلها مظاهر ومشاهد، حولت الساحة البرلمانية إلى ما يشبه "حلبة ملاكمة"، خوض النزال فيها، يقتضي القدرة على الإزعاج والإرباك والقصف والإثارة والبروز، والكفاءة العالية في إنتاج خطاب الجدل إن لم نقل العبث، وفي ظل هذا المشهد "المأسوف عليه"، لا غرابة أن تحضر في البرلمان مفردات "الكراطة" و"التقاشر" و"الديبخشي" و"بليكي" و" فوق الحمير" و" تحت البغال" و"التماسيح" و"العفاريت" وقائمة الإبداع طويلة، ولا غرابة أيضا، أن يسطع نجم بعض بعض البرلمانيين، بعدما باتوا يتملكون قدرات في "الكلاشات" على غرار ما يحدث بين "صحاب الراب"، وبين كل هذا وذاك، تخدش صورة البرلمان ويتواضع العمل البرلماني، بكل ما لذلك من آثار سياسية وتشريعية...
وبالعودة إلى عبارات النائب البرلماني الذي ارتفعت بدون شك، سومته في سوق "البوز البرلماني" في الآونة الأخيرة، وحتى نحقق نوعا من التوازن المأمول بين الحكومة والبرلمان، وكما طالب هذا النائب البرلماني الحكومة بأن تكون حكومة "جش".."عش".."هش" .."بش"..، وعلى شاكلة هذا الاختيار اللغوي والطرح التعبيري، نطالب ككتاب رأي مهتمين بالشأن السياسي الوطني وكمواطنين معنيين بما ينتجه نواب الأمة، نطالب أن يكون البرلمان بدوره، "جش" ( كالجيوش المرابطة، على أتم الجاهزية والاستعداد للدود عن قضايا الأمة وانتظاراتها بما يلزم من الجرأة والشجاعة والبسالة )، و"عش" ( يقطع مع ممارسات العبث والتواضع والتبخيس والتيئيس، ويتحمل مسؤولياته الدستورية في إطار من الالتزام والانضباط والرقي )، و"هش" ( يبتعد عن ممارسات الجدل واللغط والقصف والضرب تحت الحزام، ويجعل من المواطنين سندا، ومن مصالحهم وانتظاراتهم، قوة دافعة للتدافع البناء والترافع الراقي، و"بش"( يخاطب المواطنين ببشاشة، وينتج رسائل مفعمة بالأمل والثقة والمصداقية والحياة ) ... لا برلمان "كش" ( على مستوى المردودية والإنتاج )، و"مش"( تكون له من القدرة والكفاءة ما يجعله قادرا على كبح جماح الحكومة، حتى لا تقسو على المواطنين بما تنزله من سياسات وما تتخذه من قرارات مصيرية )، و"نش" (يقطع بشكل لارجعة فيه، مع قحولة الخطاب ونضوب الأداء ... ).
لكن وحتى لا ننتج مجددا خطاب الغرابة والجدل، أو نقع أسـرى بين أيدي عساكر إمبراطور "البوز"، أو ربما نتهم باقتحام الخلوة اللغوية للنائب البرلماني المذكور، ليس أمامنا من خيار، سوى الانفلات من حصار ما تمت الإشارة إليه من عبارات غريبة على القاموس السياسي على الرغم من أصالتها اللغوية، لأن مواطن اليوم، سئم من خطاب العبث وضاق درعا من مشاهد الجدل واللغط والعناد والصدام، وبات اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في حاجة ماسة إلى لغة الوضوح والصراحة والمسؤولية والمصداقية والرقي، بمعزل عن التعقيدات اللغة التي لاتقدم أو تؤخر، بعيدا عن جائحة "البوز" و"كوفيد "الكلاشات"، في حاجة إلى برلمانيين حقيقيين يجعلون من البرلمان، تلك السلطة التشريعية القادرة على التعبير عن قضايا وهموم وانتظارات الأمة، وعلى مراقبة العمل الحكومي بروح مواطنة، وإلى حكومة مواطنة قوية ومنسجمة، في مستوى تطلعات وانتظارات المواطنين، قادرة على إيجاد الحلول الممكنة والمبتكرة للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية القائمة، وعلى المواكبة الرصينة والمتبصرة، لما ينتظرنا من رهانات تنموية مرتبطة بالنموذج التنموي وبورش الحماية الاجتماعية، ومن تحديات مرتبطة بالوحدة الترابية للمملكة.
وفي هذا الإطار، وحتى لانبخس الناس أشياءها، وبعيدا عن لغة التبخيس وخطاب التيئيس، لايمكن إلا أن نعتز ونفتخر، بما حققه ويحققه المغرب من مكاسب اقتصادية وتنموية وصحية ودبلوماسية، ومن إشعاع إقليمي وإفريقي ودولي تحت القيادة الرشيدة للملك محمد السادس، وهذه النجاحات والمكاسب، تقتضي وحدة الصف والمزيد من التعبئة الجماعية، لكسب ما ينتظرنا من رهانات وتحديات آنية ومستقبلية، ولا خيار أمام البرلمانيين، إلا الارتقاء بمستوى الخطاب السياسي وتحمل مسؤولياتهم الدستورية في التشريع ومراقبة الأداء الحكومي، بعيدا عن "كوفيدات" اللغط والجدل والصدام والعناد، أما حكومة التحالف الثلاثي التي كانت هدفا ناعما لمدفعية النائب البرلماني الذي أطلق العنان لعبارات الجدل، فهي مطالبة أولا، بالوفاء بالوعود والالتزامات المبرمة مع المواطنين الذين ارتفع سقف مطالبهم وانتظاراتهم، ومطالبة ثانيا بأن تكون ذاك البديل الذي بحث عنه المغاربة في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، ومطالبة ثالثا، بأن تصغي لممثلي الأمة بعيدا عن لغة التعالي أو الكبرياء، وتنخرط في محاربة كل أشكال العبث والفساد السياسي، وأن تجعل من البرلمان، رديفا بل وشريكا لامحيد عنه، لكسب رهانات مختلف المعارك الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتنموية والتربوية وغيرها.
ونختم بالقول، أننا لا نجيد القصف المجاني ولا "الكلاشات" العبثية، وليست لنا قدرات عسكرية حتى نحارب ونهاجم، لكن، نعترف أن في جعبتنا أسلحة بدون زناد ولا خراطيش ولا خزنة ولا نار، عبارة عن "قلم"، يتحكم فيه "خط تحريري"، نحاول من خلاله أن نكون حريصين أشد الحرص على لغة الرصانة والمسؤولية والاحترام والتبصر، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، إسهاما متواضعا منا في خلق نقاش سياسي وإعلامي رصين، وإذا أشهرنا بندقية اللـوم أو ألقينا برماح العتاب، فمن أجل وطن يعد بيتنا المشترك، بكل اختلافاتنا وانتماءاتنا وزلاتنا وكبواتنا وإخفاقاتنا ونجاحاتنا.
بقيت الإشارة إلى أن اختيار العنوان المشار إليه أعلاه، جاء - من حيث الشكل - تفاعلا مع العبارات "الغريبة" التي أطلق النائب البرلماني عنانها داخل قبة البرلمان، ومن حيث الجوهر أو المضمون، هو دعوة صريحة للارتقاء بمستوى البرلمان وأداء الحكومة على حد سـواء، لأن قوة مغرب اليوم، مرتبطة بقوة مؤسساته، وبمتانة العلاقات والصلات التاريخية والدينية والتضامنية والإنسانية التي تربط العرش بالشعب، وبالدور المحوري والاستراتيجي للمؤسسة الملكية في صون اللحمة الوطنية وضمان استمرارية الدولة المغربية، التي نتحمل أفرادا وجماعات، مسؤولية الإسهام في خدمتها ورقيها وازدهارها، والدود عنها آناء الليل وأطراف النهار ...