سعيد الكحل: ما عادت التجارة في الدين تفيد البيجيدي

سعيد الكحل: ما عادت التجارة في الدين تفيد البيجيدي سعيد الكحل

عاد الأمين العام لحزب العدالة والتنمية إلى المتاجرة بالدين وفتح جبهات للصراع يلعب فيها دور "البطولة" ضد مكونات التيار الحداثي والديمقراطي. فبنكيران يعيش وهم تحقيق "انتصارات" تؤهل حزبه للعودة إلى تصدر نتائج الانتخابات وطرد "النحْس" الذي أصاب الحزب في انتخابات 8 شتنبر 2021. إن بنكيران يعلم جيدا أن الحزب خسر قواعده الاجتماعية بسبب القرارات المجحفة التي اتخذها على رأس الحكومة لولايتين متتاليتين. وهو مقتنع كذلك بأن "تسونامي ضرب الحزب"، وأن نتائج الانتخابات كانت "فضيعة بكل المقاييس تصل درجة الكارثة". ولم يكن أمام بنكيران غير الإقرار بالتالي "فالذي وقع لنا فيه نصيب من المسؤولية نتحمله.. فلقد وقعت وطرأت فينا وداخلنا أشياء "ماشي هي هاديك" وهي التي كانت السبب فيما وقع لنا وأعطت المبرر لكي يُفعل بنا الذي فُعل". ما يهمّ مما قاله الأمين العام للبيجيدي لأطر ومناضلي حزبه، يوم فاتح يناير الجاري، هو تحريضهم على خوض "الحرب المقدسة" والدفع بفئات العلماء والخطباء والأئمة والشيوخ والدعاة إلى الانخراط فيها. لم يناقشهم في جرائمه التي ارتكبها في حق كل فئات الشعب (عمال وموظفين وطلبة ومتعاقدين وأطباء ومتقاعدين..). إنه يفتعل هذه "الحرب" عمدا علّه يعطي للحزب فرصة العودة لمسرح الأحداث واسترجاع اهتمام الرأي العام به. فكل الجبهات خسرها البيجيدي ولا يمكنه خوض الصراع السياسي من أجلها. ليبقى المجال الوحيد الذي يعتقد أنه حكرا عليه هو المجال الديني. من هنا جاء تدخل أحد نوابه البرلمانيين، يوم الاثنين 3 يناير 2022، لا ليناقش إجراءات الحكومة أو يعارض قرارات بعض وزرائها، ولكن ليطالب رئاسة البرلمان برفع الجلسة لأداء صلاة العصر. وكان يراهن على رفض الرئاسة ليرغد ويزبد فتتناقل وسائل الإعلام "عنترياته"؛ علما، كما جاء على لساء أحد نواب الأغلبية، أن الحزب لم يسبق أن قدّم طلبا مماثلا طيلة الفترة التي قضاها على رأس الحكومة.

 

بعد  الخسران المبين الذي مُني به البيجيدي في انتخابات ثامن شتنبر، جيئ ببنكيران "كمنقذ". وباعتبار هذا الأخير يتقن الشعوبية وتهييج المشاعر الدينية لدى العامة، فقد شحذ لسانه معلنا "الحرب" على المطالبين برفع التجريم عن العلاقات الرضائية. فبنكيران لا تهمّه قضية العلاقات الرضائية في حد ذاتها، ما دام هو نفسه تستّر عليها وتواطأ مع وزراء وأعضاء من حزبه وقيادات من حركته الدعوية على ممارستها دون أن يقيم الحزب ويقعده. ولما افتضح الأمر اكتفى بتنبيه برلمانيات حزبه وبرلمانييه من خطورة اتساع وتفشي التحرش الجنسي داخليا، إذ قال "بلغني أنه بدأت تظهر تصرفات من بعض النساء والرجال في الحزب غير مفهومة.. لا نريد التدخل في الحريات الشخصية لكن لسنا حزبا متهتكا". لقد أعلن بنكيران "الحرب المقدسة" بصيحاته الهيستيرية وكأنه قائد يستنفر جنوده: "وا فينكم المغاربة؟ فينكم العلماء ؟هذا قرار ديني أو سياسي لي كتطالب به هذه السيدة؟ (يقصد السيدة ليلى السليماني).. إلى ما تكلم حد راه هاذ الشي غايطّبق. وإلى طّبّق، راه حنا لي غادي نأديو الثمن ديالو، المجتمع ديالنا والرجال ديالنا والنساء ديالنا والأبناء ديالنا". إن ما يهمه هو أن يستغل مطلب رفع التجريم عن العلاقات الرضائية ليعلن الحرب على كل الأطراف: أحزابا ودولة وهيئات نسائية وحقوقية غايته من كل هذا إنقاذ الحزب وإعادة الاعتبار إليه حتى يسترجع تعاطف الناخبين معه. ولم يُخْف بنكيران خطته هذه، بل كشف عنها لأطر حزبه كالتالي "لأنه نهار لي دافعنا ضد الخطة المغاربة نقلونا من 14 (يقصد أعضاء الحزب في البرلمان) لـ 42". بالفعل استغل البيجيدي مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية في صراعه السياسي، إذ أوهم المواطنين أنه المدافع عن الدين والأخلاق ، وأن المشروع سيخرب الأسرة والمجتمع. وانتهت معركة الخطة بتبني مدونة الأسرة التي كانت نساء البيجيدي أولى المستفيدات منها رغم مناهضتها. ظلت الأسر قائمة والمجتمع معافى. لكن ما يجهله بنكيران هو أن الظروف السياسية لم تعد هي نفس ظروف سنة 2000 ، وأن نظرة الشعب للبيجيدي اليوم لم تعد هي نظرته له قبل ثلاثة عقود. في معركة الخطة استغل البيجيدي عوامل كثيرة واستعان بأخرى في التجييش والتحريض. استغل "رابطة علماء المغرب" برئاسة الراحل إدريس الكتاني في تجنيد الخطباء والفقهاء والدعاة لمهاجمة الخطة، وبدعم من وزير الأوقاف الراحل عبد الكبير العلوي المدغري، فضلا قناة الجزيرة وكبير فقهاء تنظيم الإخوان "الشيخ القرضاوي" الذي استضافه البيجيدي في عز الصراع ليصدر فتاواه ضد مشروع الخطة. هيئات كثيرة تجندت، حينها، لمناصرة البيجيدي مثل: هيئات العدول، ومدرسي التربية الإسلامية، وخريجي دار الحديث الحسنية، فضلا عن الدور المركزي الذي لعبته حركة التوحيد والإصلاح في تجنيد خطبائها الذين لم يكونوا يخضعون لأية رقابة من الوزارة الوصية، ضد مشروع الخطة. كل هذه العوامل لم تعد متاحة للبيجيدي ليخوض بها صراعه/ حربه. فمنذ أن أعلن جلالة الملك انتهاء عهد السيبة والتسيب، سواء في استغلال منابر المساجد أو إصدار الفتاوى، تحرر المجال الديني من سيطرة تنظيمات الإسلام السياسي، وأعيدت هيكلته جذريا: حل "رابطة علماء المغرب" التي كانت قطاعا موازيا لحركة التوحيد والإصلاح، تأسيس الرابطة المحمدية لعلماء المغرب، تعيين وزيرا للأوقاف أكثر تشبثا بالهوية المذهبية والصوفية للشعب المغربي، إعادة هيكلة المجلس العلمي الأعلى ،إحداث الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء التي لها وحدها حق إصدار الفتوى في القضايا العامة التي تهم المجتمع، إعادة تنظيم دار الحديث الحسنية وتعيين العلامة أحمد الخمليشي على رأسها، إحداث معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات ، إطلاق خطة ميثاق العلماء الخ. فلم تعد الساحة السياسية تسمح للبيجيدي بالعودة بالمغرب إلى سياق 2000. ما يجهله أو يتجاهله بنكيران هو أن المغرب، من جهة، يؤطره دستور يتبنى  في ديباجته حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، ومن جهة أخرى، مصادقته على المواثيق والاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان التي صارت بنص الدستور، تسمو على التشريعات الوطنية.

 

إن ما يزعمه بنكبران من أن رفع التجريم عن العلاقات الرضائية "ستخرّب الأسر" مردود عليه من نواحي عديدة:

1 ــ إن العلاقات الرضائية واقع قائم في المجتمع ولا يمكن لأي قانون أن يرفعه حتى وإن كانت العقوبة هي الرجم  (في ظلم حكم طالبان وداعش وبوكو حرام استمرت هذه العلاقات رغم همجية العقوبات، بل كانت موجودة والوحي ينزل على الرسول (ص) الذي قال لماعز لما أبلغه أنه وجد رجلا وامرأة يزنيان "لو سترته بإزارك لكان خيرا لك"، أو واقعة عمر ابن الخطاب لما تجسس وتسلق سور منزل ليجد رجلا وامرأة غريبة عنه يعاقران الخمر فاعتذر لهما وانسحب).

 

2 ــ إن العلاقات الرضائية من شأنها أن تحد من جرائم الاغتصاب وزنا المحارم وما يترتب عنهما من انحراف وانتحار ورمي الأجنة والرضع في  الأزقة وحاويات الأزبال (24 طفل في المتوسط يُرمى بهم يوميا في القمامة ، حسب عائشة الشنا).

 

3 ــ إن الدول التي رفعت التجريم عن العلاقات الرضائية، وضمنها تركيا، لم تتفكك أسَرُها كما لم تُخرّب مجتمعاتها. أليست تركيا نموذجا للإسلاميين ؟ فلتكن نموذجا لهم كذلك في التشريعات والقوانين.

 

4 ــ إن الدستور المغربي ينص على حماية الحياة الخاصة والحق في الحريات الفردية. ورفع التجريم عن العلاقات الرضائية لا يعني السماح بممارستها في الساحات والأماكن العامة.

 

5 ــ حين تورط أعضاء من البيجيدي وحركة التوحيد والإصلاح في "فضائح جنسية"، تعالت الأصوات من داخل الهيئتين تطالب بحماية الحياة الخاصة والحريات الفردية، ولم تطالب بتطبيق "الحدود" أو القانون. فليواصل بنكيران نفس المطالب.

 

6 ــ إن المغرب  ليس دولة دينية، وأن تشريعاته مدنية. لهذا ليس من حق الدولة محاسبة المواطنين عن الحلال والحرام والالتزام بالعبادات أو اقتحام المنازل كما فعل عمر بن الخطاب وتراجع بعد أن أدرك أخطاءه.

 

7 ــ إن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو هيئة دستورية، سبق ورفع توصيات إلى حكومة البيجيدي أثناء عرض مشروع القانون الجنائي للنقاش، على رأسها رفع التجريم عن العلاقات الرضائية.

 

8 ــ إن دولة الإمارات العربية المتحدة عدّلت قانونها الجنائي ورفعت التجريم عن العلاقات الرضائية، فما المانع من أن يحذو المغرب حذوها؟.

 

إن الخطر الحقيقي الذي يهدد المجتمعات العربية/ الإسلامية هو خطر الإسلام السياسي الذي يفكك الأسر ويفتن الشعوب ويخرب الدول. وما تعيشه الدول التي تهيمن عليها تنظيمات الإسلام السياسي خير مثال لخطورة هذا التيار. فيكفي أن البيجيدي عطّل تقدم المغرب لمدة عشر سنوات، وكاد يرجعه قرونا إلى الوراء إن هو افلح في تمرير مشروع القانون الجنائي الداعشي.