عبد الله أبو أياد: نزلاء السجون وسؤال العلاج والتأهيل والتمكين بعد السجن

عبد الله أبو أياد: نزلاء السجون وسؤال العلاج والتأهيل والتمكين بعد السجن عبد الله أبو أياد

يمكن اعتبار التصرف الإجرامي المحيل على السجن بالمرض الاجتماعي؛ من حيث النشأة والتطور على الأقل. فصاحبه، حسب العديد من المعاينات الميدانية، شديد الحساسية للشر والاحتقار، وما يطاله من مشاعر العداء عبر المحيطين به وإهمالهم له، بل الكثير من السجناء يتميزون بقدرات فائقة على التقاط مظاهر العدوان داخل واقعهم المعاش وتسجيلها بمستوى أعلى كثيرا من الأخرين.

لذلك، تظهر الحاجة لمستوى عال من العناية بشأن التمكين الإنساني ومكافحة الآفات اللا اجتماعية والإجرامية في ظل الراهن الإنساني، باعتباره نقطة التقاء بين كافة التخصصات المعرفية والعلمية والتقنية الحديثة وبين كينونتنا، حيث يلاحظ أن الكثير من المترددين على السجون يتميزون بقدرات فائقة على التقاط مظاهر العدوان داخل واقعهم المعاش وتسجيلها بمستوى أعلى كثيرا من الأخرين.

وهذا ما يجعل التصرف الإجرامي المحال على السجن غير قادر على إظهاره أو إنكاره بل ينزع إلى إزاحة الأقنعة عنه من خلال ما يقدم عليه من تصرفات، وهي وضعية تفرض التساؤل عن مرضية هذه السمة أم أنها جانب إيجابي إذا استطعنا إدراكها سيسهم في صياغتنا لمقاربة العلاج والتأهيل والتمكين المناسب لهذا الشخص؟

 

التصرف الإجرامي تعبير عن أحوال نفسية في ظل واقع مهترئ

إن البحث عن إجابات لهذا السؤال قد تضعنا أمام تحديات عديدة، فعندما ننطلق من الاجتهادات التحليلية سنجد أن حقيقة التصرف الإجرامي هي تعبيرات عن أحوال نفسية تشير الى واقع مهترئ يصعب إدراكه عبر الضوابط الاجتماعية السائدة في الواقع الملموس، لكنها تعبيرات تتم بأساليب مرعبة ومشوهة وذات أثار سلبية حادة ومسيئة، يقدم صاحبها على ممارستها وكأنه في حاله حلم؛ فالحلم هنا واقع حقيقي يعبر عن وضعية نفسية لا تستطيع الخروج إلى الواقع إلا عبر الأحلام.

وتعتبر الجريمة فعل أو امتناع مخالف للنظام الاجتماعي، موجودة ومنتشرة على الصعيد العالمي، إلا أن صاحب التصرف الإجرامي يعبر عنها عبر وسائل غير مشروعة وذات انعكاسات عدوانية على المسار الحضاري. وبغض النظر عن المعطيات السيكولوجية التي تشخص واقع الخلفيات النفسية أو البناء النفسي لشخصية السجين، خلال وبعد قضاء فترة العقوبة، ثم تحليل أهمية الاهتمام بالبحث عن المداخل المناسبة لعلاج وتأهيل وتمكين هذه الفئة الاجتماعية، فإن الوقوف على شخصية نزيل السجن اعتمادا على مقاييس علمية تنحدر من تخصصات متعددة تعنى بدراسة الطبيعة الإنسانية، كثيرا ما يتيح للباحث والفاعل المتخصص، إدراك خريطة الوضع الإنساني بكل تناقضاته وصعوباته.

 

عودة السجين إلى الحياة الإنسانية بأنفاس فاعلة متحضرة

ويتيح الفرصة كذلك للانتباه لما يحتويه من فرص وآفاق، وما يطاله من عوامل الصراع، وحوافز التكامل، وما يسوده من  أواصر الصدق وحيل الخداع وحالات التنميط والتبعية وومضات الإبداع والابتكار ومشاعر الغربة وأحاسيس الانتماء ومظاهر الخصومة مع الذات ومقومات الاعتزاز بها ودرجات مشاعر الحب والبغض ومستوى عدم الاكتراث. فهذا سيكون من غير المفيد الحديث عليه، وخاصة بالنسبة للخارج من السجن الذي تم علاجه وتأهيله وتمكينه من امتلاك اقتدارات ومهارات العودة إلى الحياة الإنسانية بأنفاس فاعلة متحضرة، إذ بغض النظر عن سبب الإحالة على السجن، يستشف بأن غالبية نزلاء السجون ضحايا، وأنهم لا ينصت إلى أي واحد منهم من قبل القيمين على أحوالهم قبل السجن أو بعده.

إن هذا ما يدفع إلى القول بأن واجب المسؤول عن علاج وتأهيل وتمكين نزلاء السجون تبليغ مجتمعاتهم بالرؤى والاتجاهات التي يحملها نزيل السجن والتي تنم عن إدراكات عميقة للأمراض الجمعية المتفشية في المجتمع والشر السائد داخله، والذي يقترف من لدننا كأفراد وعلى مدى أجيال عديدة، ولم يسمح لنا بالانتقال من خانة الأفراد إلى رحاب الأشخاص والذوات الفاعلة، من تصرفات سيئة ومسيئة ندس عليها ونواريها أعماق التراب داخل مناطق اللاشعور، ونحرص على أن لا تكون مرئية حتى من قبل كل واحد منا، وهو ما يمكننا القول في ظله أن التصرف الإجرامي تصرف خاص أصله تصرف عام، يشارك في صياغة دوافعه وعوامله الجميع بقصد أو بغيره.

لكن بصفه عامة، فإن العمل مع نزلاء السجون أو المحالين على التدابير البديلة لها، هي أعمال شاق إنجازها إلا على المؤهل نفسيا والمدرك علميا للطابع الحضاري لهذا الصنف من الخدمات العمومية على الصعيد الإنساني. فالعقوبة ليست مجرد إيلام يحقق الردع العام أو الخاص، وهي فكرة عفى عنها الزمن وكل عمل بها لا يزيد المجتمع الإنساني إلا تهديدا واضطرابا وتخلفا.

 

علاج وتأهيل وتمكين لمحاربة الجريمة

ومن هذا المنطلق فيمكن التساؤل وبدون مواربة إلى أي حد نعتمد العلوم النفسية والتربوية والعلوم البيوعصبية والاجتماعية في صياغة مقاربات مكافحة الجريمة وعلاج وتأهيل وتمكين ضحاياها ومعاقبة مقترفيها وتأمين أمن وسلامة المجتمع من لدن واضعي السياسات العمومية الوطنية والترابية والقطاعية عامة، والسياسات الجنائية بالخصوص والسياسات العقابية على وجه التحديد؟

وفي هذا السياق يلاحظ بأنه لا خلاف أن هناك اجتهادات عملية على صعيد السياسات العقابية، لكنها لا تكفي لمكافحة الجريمة في غياب رؤى جديدة تحقق العناية النفسية والطبية والاجتماعية للضحية وتيسر لصاحب التصرف الإجرامي تحضر انفعالاته وتقديره لشخصيته، وتسمح للمجتمع بصيانة أمنه على قيم التضامن والتسامح والهدوء والتفكير بالواجب وتوسع إسهاماته في نشر ثقافة التحكم في تحويل التوترات والقلق إلى فرص للإبداع وأفاق للتحضر وتجاوز الضياع والحرمان وتكوين مفكرين بدل الاقتصاد على تشكيل خادمين ودعاة الاستهلاك. فهل نستطيع التفكير في تحويل المندوبية العامة للسجون إلى المندوبية السامية للتمكين الإنساني ومكافحة والآفات الإجرامية واللا اجتماعية؟

 

الحاجة لثقافة مع صاحب التصرف الإجرامي

إننا في حاجة إلى ثقافة سوسيو تنموية تيسر للأسر والمحيط السوسيو اقتصادي ولإدارة الدولة والجماعات الترابية والقطاع الخاص والمؤسسات العمومية والمجتمع المدني، ثقافة تتيح لنا الفهم بأن صاحب التصرف الإجرامي مريض ويحتاج إلى طرق خاصة في التعامل معه، وأن التصرفات التي قد تصدر منه يجب أن تفسر على أنها مظهر من مظاهر الحالة المرضية، وأن الواجب مواجهتها بوسائل تحرر صاحبها من خطورة تصرفاته من خلال كيفية استجاباتنا بصورة طيبة لشخصه وتفهم عميق لظروفه وذلك بتوفير البدائل المشروعة التي تصونه ضد الوقوع في التصرف الإجرامي.

وهكذا فوجود فرد يعاني من هيمنة هذا التصرف على شخصيته داخل أسرة يسودها الوئام والتعاطف والحوار البناء والدفيء يستطيع التحرر والتخلص منه؛ حيث يقاوم كل بواعث التصرف بناء على المقومات الإيجابية في شخصية الفرد المعني بالأمر وتوظيفها في إنعاش دينامية الأبعاد النمائية المتعثرة التي تحول دون امتلاك هذا الفرد للنضج المطلوب.

وهذا ما يجعل التأكيد على أن العناية بشأن التمكين الإنساني ومكافحة الآفات اللا اجتماعية والإجرامية في ظل الراهن الإنساني، تعد نقطة الالتقاء بين كافة التخصصات المعرفية والعلمية والتقنية الحديثة وبين كينونتنا، فعبرها نستطيع صياغة نقاط الانطلاق نحو العناية النفسية والاجتماعية بالضحايا وتمكين صاحب التصرف الإجرامي بالإضافة إلى تحقيق غاياتنا الأسمى المتمثلة في المجتمع المتحضر اعتمادا على ذواته الفاعلة، وهو ما يطرح حاليا سؤال العلاج والتأهيل والتمكين...

 

عبد الله أبو أياد، أستاذ التعليم العالي بالمعهد الملكي لتكوين أطر الشبيبة والرياضة بالرباط