أحمد بومعيز: التعليم الأولي بين التردد والمأسسة

أحمد بومعيز: التعليم الأولي بين التردد والمأسسة أحمد بومعيز

- توطئة أولية:

قد لا نحتاج للكثير من الإحاطة المرجعية لنعترف بأهمية التعليم الأولي داخل كل منظومة تربوية. والمنظومة المغربية لا تشكل الاستثناء بالطبع. لكن نعترف صراحة أن التعليم الأولي لم يحظ فعلا بأهميته وأولويته إلا في السنوات الأخيرة، رغم ما يشكله دوما كركيزة أساس في تأهيل المتمدرسين كي يتدرجوا بشكل سلس في الأسلاك التعليمية الموالية...

ومن البديهي أيضا أن نعيد التذكير باعتبار التعليم الأولي بات مكونا رئيسا من مكونات المدرسة وأسلاكها، ولا جدال في ذلك وفق مختلف التوجهات والقرارات والأدبيات التربوية -على الأقل منذ بداية القرن الحالي وفي سياق الميثاق الوطني للتربية والتكوين وما تلاه من برامج ومشاريع وتدابير-..

لكن، ورغم هذا الاعتراف الضمني والنظري والإجرائي –إشارة لاعتباره ضمن مكونات وعناصر الترويسة الجديدة للوزارة-، ورغم ما قطعه قطاع التربية والتكوين في السنوات الأخيرة من أشواط وإصلاحات أثر بالإيجاب على التعليم الأولي، وآخرها وليس أخيرها أجرأة مشاريع القانون الإطار 17-51، وإعداد المخطط التشريعي والتنظيمي الخاص بتنزيل حافظة المشاريع والمضمن خلالها برامج ومشروع التعليم الأولي، ورغم التدخلات والتنزيل الفعلي والمجالي في مختلف الأكاديميات والمديريات التابعة لوزارة التربية الوطنية، رغم كل ذلك وغيره، من المجهودات والاجتهادات والمبادرات الرسمية وغير الرسمية، ما زال التعليم الأولي في العديد من المديريات الإقليمية تعتريه ويعرف عدة مشاكل وعراقيل، منها، التنظيمي، والقانوني، والإاجتماعي والإنساني، وحتى البنيوي. وهي مشاكل ومطبات قد تجد مبرراتها نظريا على الأقل في إشكالات بنيوية ترتبط بمنظومة التربية والتكوين ككل ..

 

- التعليم الأولي بين الاعتراف والتعميم، وتعدد المتدخلين:

الأكيد أن النهوض بالتعليم الأولي وتعميمه يتطلب الكثير من الجهد والاستثمار، المادي والبشري والتنظيمي. والأكيد أيضا أن التعميم يفترض التراكم الكمي، والتراكم الكمي بدوره يتطلب مجهودات كبيرة لضمان الجودة، والجودة أساس كل منتوج بما في ذلك المنتوج التربوي. هذا في وضع كان فيه التعليم الأولي ينشط ضمن قطاع غير مهيكل من جهة، ويرتبط ببنيات تقليدية كالكتاتيب القرآنية، وأيضا ضمن مؤسسات خاصة بتوجهات وهندسة بيداغوجية مخالفة ومختلفة عن النموذج التقليدي وحتى الرسمي.. مما جعل القطاع يسير بسرعتين مختلفتين، ووقف نماذج تربوية وفلسفية ونظرية متضاربة ومتناقضة، وهو الوضع الذي جعل من مشاريع وتدخل الوزارة الوصية تدخلا استراتيجيا من أجل التعميم ومقاربات التوحيد المعياري والمؤسساتي راهنا على الأقل. لكن هذا لم يكن بالمشروع  والورش الهين والبسيط نظرا للتركيب والتعقد الذي يطبع القطاع، وكذا تعدد الاكراهات بتعدد الشركاء والمتدخلين. وهنا نسوق عددا من المشاكل والتعقيدات المرتبطة بذات القطاع وتعوق تحقيق أهدافه الاستراتيجية وتعميمه، وفق الجودة المطلوبة. فمثلا ورش التعميم فرض تدخل واستنفار العديد من المتدخلين والشركاء، ربما بسبب عدم رغبة، أو عدم قدرة، أو عدم جاهزية الوزارة أو الحكومة على تحمل مسؤولية القطاع لوحدها وبشكل مباشر، وذلك بخصوص مجالات التسيير والتدريس والتأهيل وإعداد وإنشاء قاعات الدرس. وهنا يطرح راهنا ما تعيشه بعض المديريات والمهنيين والمعنيين من مشاكل مرتبطة شكلا وجوهرا بكثرة المتدخلين والشركاء، كجمعيات أو شبه مؤسسات مجتمع مدني، يوكل إليها تدبير وتسيير التعليم الأولي. ومن بين هذه المشاكل يمكن إثارة وضعية وهيكلة وضعف تأهيل عدد من الجمعيات الموكول لها أمر التسيير، رغم الشروط والقوانين ودفتر التحملات التي تربط الجمعيات بالمديريات الإقليمية. كما أن مجموع الجمعيات المتدخلة ليست نسيجا أو بنية متجانسة، ولا تمتلك كلها نفس الامكانيات والمرجعيات والمؤهلات، مما يؤثر على المتعلمين والعاملين والمعنيين. ففي القطاع نجد جمعيات مهيكلة وببنيات صلبة، كالمؤسسة المغربية للنهوض بالتعليم الأولي، وبجانبها وفي نفس المديرية نجد جمعيات بسيطة التكوين وبأطر متواضعة يوكل لها نفس المهام، مع الإشارة إلى شروط تأهيل الجمعيات الأخرى من أجل المواكبة حتى لا نقول المنافسة بوجود فارق المأسسة والإمكانيات والوضعيات التنظيمية.

كما أن التعميم يفترض ايضا تأهيل الفضاء وتوفير مقرات عمل مناسبة ووفق شروط، وهو أمر له كلفته. وهنا نقف على الوضعية التي جعلت من بنيات التعليم الأولي بنيات ضعيفة ومتهالكة وغير تربوية، أو غير متوفرة أصلا بالمؤسسات. مع محاولات وتدخلات الوزارة مؤخرا لتشييد أقسام مندمجة داخل المؤسسات وفق نماذج لا تلغي النقاش وعليها الكثير من الملاحظات، إضافة إلى تدخل مؤسسات شريكة في سياق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية للتأهيل، وبعضها للإعداد والتشييد حتى خارج المؤسسات التعليمية.

 

- تفويت مهمة التربية والتعليم للجمعيات والمجتمع المدني يعد مغامرة، وتعدد الشركاء يصعب مهمة التتبع ومراقبة الجودة:

رغم محاولات توحيد المساطر وضبط العلاقات والمهام بواسطة وثائق الشراكات ودفاتر تحملات والالتزامات، وباعتبار أن مهمة التربية والتكوين ليست بالمهمة السهلة والثانوية التي يمكن تفويتها للقطاع الجمعوي حتى لا أقول المجتمع المدني، فالمقاربة المعتمدة حاليا والقاضية بتكليف الجمعيات بالتعليم الأولي، لها من المغامرة ما لها ،ولها من السلبيات ما يكفي ويسمح بالمطالبة بإعادة النظر في المقاربة برمتها، وهنا نشير إلى:

- ضعف إمكانياته وهياكل بعض الجمعيات وعدم مهنية أطرها.

- عدم ضبط توجهات وفكر وإيديولوجيات الجمعيات الموكول لها تدبير الوحدات الدراسية والأقسام.

- صعوبة وتعقد مهمة التدريس والتربية والتكوين بالتعليم الأولي كباقي مسالك وأسلاك التعليم.

- استراتيجية القطاع لا يمكن تحقيقها بجمعيات ومجتمع مدني وببنيات غير احترافية ومختصة.

- التداخل في المهام وغموض بعض جوانب المسؤولية بين هياكل الوزارة والمؤسسات التعليمية المحتضنة والجمعيات يصعب ويعقد  المهام، ويعرقل سير العمل بالنسبة للمرفق والمؤسسات والجمعيات وباقي المكونات:

كمشكل الإشراف والتسيير الذي تتبناه وتتجاذبه الجمعيات والمديرين بالمؤسسات التعليمية المحتضنة في نفس الآن... ونفس الوضع بالنسبة للتأطير التربوي والإشراف التربوي بين الجمعيات والمفتشين التربويين.. وذلك راجع ربما لوضعية ربط الجمعية بمهمة وصفة "المشغل" وهي مهمة وصفة تتطلب هياكل وهيكلة ومؤهلات لا تتوفر بالضرورة في ذات الجمعيات ووقف ذات المهام التربوية، وذلك ما يتطلب نقاشات قانونية ومسطرية غير متوفرة وغير ميسرة حاليا. كما أن المشتغلين في القطاع "المربيات والمربيين" يجدون أنفسهم في متاهة بين تعدد المتدخلين وتوجيهات وتوجهات متضاربة...

 

- التعميم والجودة والمأسسة يفترض توحيد المعايير والمساطر والأهداف:

وهنا، ورجوعا لمبادئ المأسسة والتوحيد والتعميم، في سياق النموذج التربوي الجديد والمأمول، وارتباطا بالنقاش أو حتى السجال المثار حاليا حول الموضوع في عدد من الجهات والأقاليم -الصويرة نموذجا- نشير إلى قضية "بروفايل" المنشط"ة" أو المربي"ة" ومعطى" ضرورة التوفر على شهادة البكالوريا" من أجل "التشغيل من طرف الجمعية"!!؟؟

وهو بذاته موضوع له من التبعات ما له، وبات يشكل وضعا ونقاشا اجتماعيا له تداعيات قصوى...، فهناك من المربيات والمربيين من قضى حوالي 30 سنة في ذات المهمة وفي شروط صعبة لا توفر حتى الحد الادنى من شروط التشغيل الكريم، يجدون نفسهم الآن خارج المعادلة والمهمة بعد أن تم الوعد أخيرا بالحد الأدنى من الأجر!! وهذا يعد لوحده عنصرا أساسا يثير الكثير من التساؤلات حول توحيد "بروفايل" المنشط، وحصوله أو حيازته على شواهد علمية أو باكلوريا... وما مصير كل أولئك الذين أدوا المهمة، ومارسوا المهنة وبأهلية وتفان ومردودية  لسنوات عديدة بالباكلوريا أو بدونها، وبإشراف واعتراف وتأطير ومواكبة من قبل الوزارة الوصية.. وما مدى فتح الآفاق مستقبلا للشباب والأطر والفعاليات في سياق المسؤولية القانونية والإدارية والمؤسساتية، بعيدا عن الغموض والتأويلات، والضبابية والمزاجية والارتجال الإداري... وهنا نشير على سبيل الاستئناس والتذكير، أن المذكرات الوزارية والمراسلات الوزارية ونماذج دفاتر التحملات.. لا تشير علنا للمستوى التعليمي للمنشطين والمربيين، ولا للباكلوريا على الخصوص ومنها :

المذكرة الوزارية 97-20 بتاريخ 2-12-2020 في شأن الارتقاء بالجودة...،

والمراسلة الوزارية رقم 0847-20 بتاريخ 28 دجنبر 2020 في شأن ضمان الحد الادنى للأجور..،

والمراسلة الوزارية عدد 0519- 20 بتاريخ 21يوليوز 2020...

وكذا وثائق طلبات العروض ودفتر التحملات ووثائق الشراكة..

 

- على سبيل الختم، ومن أجل إنجاح الورش في أفق تعليم أولي مندمج وطنيا:

قد لا نختلف حول التراكم الكمي المنجز في مجال التعليم الأولي في السنوات الأخيرة، ولا حول المجهود الكبير الذي تبدله الوزارة والشركاء من أجل التعميم والتأهيل.. لكن هذا لا يعفي البتة من الوقوف على بعض مكامن الضعف وهوامش الظل التي باتت تحاصر القطاع والتي تستوجب من الجميع، حكومة ووزارة ومؤسسات وجمعيات ونقابات وأحزاب وفعاليات تكثيف الجهود وتعميم المعطيات وفتح أوراش التشارك والتداول وتوحيد القرارات والخطاب.. من أجل وضع التعليم الأولي على سكة المأساة في سياق القانون الإطار للتربية والتكوين، والنموذج التنموي الذي أسس له ملك البلاد، في أفق تأهيل المنظومة التربوية والتي تعد مدخلا رئيسا لكل فعل تنموي. وذلك  من خلال:

- حسم المسؤولية في تبني استراتيجية تدبير وهندسية التعليم الأولي من قبل الوزارة الوصية .

- تحديد  مهام ومسؤوليات المتدخلين والجمعيات الشريكة .

- إشراك المجتمع المدني في النقاش والتدبير وفق معايير واضحة.

- تأهيل الجمعيات المتدخلة في القطاع.

- تحديد المتدخلين وفق القانون و التشريعات والقوانين الأساسية للجمعيات.

- ضمان الشفافية في التسيير والمراقبة .

- ضمان حقوق العاملين في القطاع والمتضررين حاليا من التغييرات الجديدة والمرتقبة.

- توحيد القرارات الاستراتيجية والمقاربات الخاصة بالتدبير على المستوى الوطني...