ذات صباح، دون احتساء قهوتي الصباحية، أخدت مقعدي بقاعة فسيحة للصندوق المغربي للتقاعد لأجل الحصول على بعض الوثائق الإدارية، كان الرقم 66 هو ترتيبي في الزيارة...
قلت في نفسي لا بأس من الانتظار -رغم كرهي المقيت لكل أصناف الانتظارات التي قد تأتي بخير وقد لا تأتي- تجولت بعيناي في كراسي القاعة...
محاربون من كلا الجنسين، وحد بينهم بياض الشعر، والتقدم في العمر، منهم من استوطنت يده "عكازة " ذكرتني بلغز لم نتمكن في ألعاب الطفولة من حله، حين يسألنا الكبار: من الذي يمشي على أربع ثم على إثنين، ثم على ثلاثة...
تنهدت وقلت في نفسي، أحمد الله أنني لازلت في غنى عن الرجل الثالثة، ولازالت قوة التحمل وفورة الشباب ترافقني بعد تجاوز السادسة والستين...
سكون مطبق داخل القاعة وكأن الطير على رؤوس الجميع، لا تسمع شيء إلا المنبه الآلي الذي يسجل الأرقام على الشاشة بلون أحمر، أو من تنهيدات عميقة تسمع هنا وهناك لها أكثر من دلالة ،او زفير متقطع لأحدهم وكان سيدنا عزرائيل متربص به، او قول بعضهم" أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم" وكأنه يحمل ثقله وازنا... سعال من حناجر استوطنها الطباشير ،اكتاف غير متوازية بفعل الكتابة على السبورة أو تصحيح أطنان من التمارين المدرسية...منظر زادت من تأتيته النظارات الميسرة لرؤية ذهبت مع "التركيز " على بطاقات التقويم وتهيئ الاختبارات وما شابه ذلك...
شريحة من الأطر التربوية والإدارية افنت عمرها في توسيع رقعة المعرفة بهذا البلد الحبيب، اعطت الكثير ولم تأخذ إلا النزر القليل...
احالني المشهد على لقاءي ذات عطلة بشلالات اوزود مع ثلة من المتقاعدين الاجانب، بنياتهم قوية، لباسهم رياضي انيق، عرباتهم من نوع المنازل المجهزة المتنقلة، تجادبنا أطراف الحديث بعد رفقة وجيزة في منعرجات المكان، قال لي أحدهم: إننا نعيش عمرنا الثالث "on vie nôtre troisième âge "...قلت في نفسي غاب عنا عيش العمر الواحد وأحرى أن نعيش العمر الثالث...أدركت انهم رمز لدولة تحترم مواطنيها. تراهن على العنصر البشري حتى في أيامه الاخيرة، تهيء له سبل العيش الكريم جزاءا لما قدمه لوطنه....ونحن رمز ل ول ول ول.........
ونحن على مشارف عيد الأضحى، سالت القيمين على أمور البلاد والعباد في بلدنا الحبيب-افتراضيا و في غفلة منهم-الى يمكن ان تفكروا في جميع المتقاعدين، هؤلاء المساكين بتوفير اضحية للعيد -على غرار تلامذتهم من الوزراء و البرلمانيين وغيرهم كثير ممن تسابق هذه الأيام للظفر بقسيمة كبش من نوع خاص -لتكون صدقة جارية دون احتسابها لكم..كنت متيقنا في قرارة نفسي، بأن انفة هؤلاء المتقاعدين لن تسمح بهذا صدقة، فطينتها أكبر من ذلك.
اجابتني العلبة الصوتية لهواتف القيمين على الشأن العام، تلك الهواتف الأكثر ذكاء، والتي لم يؤدوا حتما حتى ثمنها، قائلة: "مخاطبكم مشغول الان بتدبير أموره الخاصة وتفقد شركاته وحسابات البنكية المتعددة هنا وهناك، والحرص على الحصول على الجنسيات، فضلا عن امتلاء علبها الصوتية برسائل الحب والغرام ومختلف الوساطات هنا وهناك....
لم يخرجني من كهذا نفق سوى يد على كتفي تقول انه الرقم 67, كانت المسافة بين الرقمين (66 و 67 ) مسافة الوطن من طنجة إلى لكويرة...غادرت القاعة وفي نفسي شيء من حتى المتقاعدين.