عبد الالاه حبيبي: أغلب من يعشق صراخ الحشود يعاني من وسواس الاضطهاد والمؤامرة...

عبد الالاه حبيبي: أغلب من يعشق صراخ الحشود يعاني من وسواس الاضطهاد والمؤامرة... عبد الالاه حبيبي
ليس الوعي تجميع لانفعالات مكبوتة، تراكمت بتأثير متصل من الاحتكاك بإيديولوجيات لاهوتية، أو عرقية، أو شوفنية أو غيرها،  مفادها تعويد أصحابها على النظر دوما  إلى العالم وكأنه في حالة انهيار، وذلك من خلال تخيل أن ما يقع من أحداث  وثورات وأزمات وكوارث طبيعية  هي مجرد  علامات أولية تنذر بقرب نهاية الكون... تشترك في  إنتاج هذا النمط من  "الوسواس  الكارثي" الكثير من التنظيمات السرية المدججة بمعتقدات منحرفة، والجماعات المنغلقة على نفسها والخاضعة  لسلطة الزعيم الروحي بشكل أعمى حيث لا يسمح لروادها  أو مريديها بالاتصال  أو التفاعل  مع أفكار مغايرة لما يتم تعليمه إياهم في ظلمات ودهاليز الشحن والتعبئة استعدادا ليوم الزحف الأكبر... هذا ليس وعيا ولا يمكن أن يكون وعيا أبدا مهما كثر أتباعه وصياحه وهذيانه في الزوايا والشوارع والحمامات وتحت السقائف الكئيبة... سيظل دوما مرضا سيكولوجيا يحتاج إلى علاج عبر حقنه بالوعي الحقيقي الذي يستند إلى المعرفة العلمية بالواقع وبالإنسان...
الوعي هو الإدراك الموضوعي للقوانين المتحكمة في التاريخ والمجتمع والطبيعة، هو المدخل الحقيقي والهادئ لفهم  نظام الأشياء والأحداث والناس، دون تأويل غيبي لها، أو ترميز أنتروبومورفي من شأنه سلخها عن طبيعتها البشرية أو أصلها الطبيعي، لهذا يتحدد الوعي الحقيقي باعتباره هو الإدراك الموضوعي لما يقع في العالم من حوادث ووقائع يمكن تفسيرها بالعودة إلى  منطق السببية العلمية، أي ذلك المنطق الذي  يقيم في عمق مقولة الخلق  نفسها وفي كل مستويات تمفصلها.. الوعي الحقيقي هو إمتلاك قدرة على اكتشاف القوانين الناظمة لحركة الأشياء والظواهر والأحداث البشرية، بالنظر إليها باعتبارها  قوانين محايثة للعالم الذي نعيش فيه، وليست منفصلة عنه  تحت أية ذريعة إيديولوجية أو تخيلات نفسية ناتجة عن  الاكتئاب والخيبات النفسية المتتالية... الوعي يسكن العالم كروح والعالم يسكن الوعي كعقل ... 

الوسواس ليسا وعيا لأنه بكل اختصار نقيض الوعي، نفي له، وبلغة أخرى هو صنو الوعي الشقي، الذي يولد من رحم المعاناة النفسية الطويلة، تلك  الآلام العميقة والجروح النرجيسية البعيدة المدى التي لم تجد لها حلا عقلانيا  في سياقات واقعية، أو لم تستثمر بشكل عقلاني لخلق الوعي الحقيقي أي الإنسان المتصالح مع ذاته ومآزقه، الوعي الذي يرى العالم كما هو وليس كما تمليه النزوعات الهوامية المرضية.. الوعي هو الإدراك العقلي المتحرر نسبيا من وسواس الذاتية...

ليس الصياح بأغلظ الكلمات دليلا على أن الأمر يتعلق بانبلاج الوعي، أو بظهور الحقيقة الموضوعية، لأن الصياح أصلا وجد للتستر على فشل في إثبات الحقيقة همسا ولطفا، لهذا يتم حشد الطاقة الصوتية والانفعالية لأجل إخفاء هذا النقص والتغطية على هذا الضعف الكامن في الكلمات التي يرددها الجمع بانضباط كما يردد الجنود الأناشيد العسكرية في الميادين الخاصة بالتمرين على القواعد والأنظمة العسكرية...إذا  كان صاحب الصوت الصادح لا يفكر، فلا يمكن له أن ينجب سوى أمثاله من الهائجين غير الراغبين في المعرفة العلمية لأنهم بكل بساطة  حشد عاجز عقليا عن التماس المعرفة الموضوعية بوسائلها المعروفة.. الحشد المنبهر لا ينتج علما ولا فنا ولا تقنية ولا منهجا جديدا، بل كل ما يتقنه هو الانقضاض على الذين يقفون في طريقه لإزاحتهم بالقوة ومحو أثرهم حتى ينتقم لكبريائه الجريح...

المريض بالوسواس يرى المؤامرة في كل مكان، الغدر في كل الوجوه، التربص في كل النفوس، لهذا تراه يجتهد لأجل تحصين نفسه، وتهيئيها لمواجهة كل مكروه محتمل، فهو يشعر أنه  دوما مهدد في أمنه، وأن الخطر يحيط به من كل الجهات، لهذا تراه  يغير مواقعه، وأمكنة مروره، وعاداته اليومية حفاظا على سلامته البدنية، وتفويت الفرصة على كل من يفترض أنهم يلاحقونه من أجل إيذائه ...

ينقل  الشخص الوسواسي أو الزعيم الوسواسي مرضه  المزمن إلى مريديه، مخاطبا غرائزهم البدائية بلغة التخويف والتحذير، موحيا لهم أنهم مستهدفون، لأنهم  مثلا الأمة الأفضل، أو لكونهن يحملون رسالة تاريخية لإنقاذ البشرية من المؤامرات والدسائس والانحرافات... هكذا يصل إلى قلوبهم، ويتمكن من اختراق أرواحهم ليحولهم في الأخير إلى أدوات لبسط سيطرته عليهم ،أولا، لينتقل بع ذلك  إلى تعميم وسواسه على المجتمع ككل معتقدا أنه يقوم يتوعية الناس وتحريرهم من الاستلاب.. في حين أنه  يمارس أبشع استلاب على ذوي الأريحية والنيات الصادقة، بل وأحيانا حتى على الأطر  المتعلمة...بهذا المعنى بات الوسواس شيطان يقيم في كل وعي ابتعد عن المعرفة المسنودة بالعلم والبحث والاتصال المباشر بالعالم وبالناس...