خالد فتحي: كيف أصبحت الجرعة الثالثة للقاح كوفيد ضرورية؟

خالد فتحي: كيف أصبحت الجرعة الثالثة للقاح كوفيد ضرورية؟ خالد فتحي

تنتشر على مدى مواقع التواصل الاجتماعي تعليقات وتعليقات مضادة حول ضرورة تلقي الجرعة الثالثة من اللقاح، بعض هذه التعليقات يرشح بسخرية سوداء حول جدول التلقيح الذي خيب تطلعاته، وراح يتمطط إلى جرعات إضافية، ولذلك هو يبشر المغاربة بالبشرى التي يفهم منها التحذير بأنهم سيصبحون فريسة لجرعات متتالية سوف تتعاقب عليهم إلى متم حياتهم، وبعضها الآخر يتطرف في التأويل، ويعتبر أن لجوء الحكومات إلى جرعة ثالثة، ما هو إلا دليل ساطع على "إخفاق اللقاحات"، وعلى أننا انتقلنا من مؤامرة تصنيع الفيروس إلى الرزوح تحت نير مؤامرة التحكم بالبشرية من خلال اللقاح.. ثم هناك في مقابل هذه الفئة، فئة أخرى واسعة، لكنها ذات صدى ضعيف نسبيا، حتى إننا لا نكاد نتبين في خضم كل هذا الضجيج المفتعل موقفها الإيجابي المساند للتلقيح لمرة ثالثة... فئة يمكن أن ننعتها عن حق بالأغلبية الصامتة التي قد تلقحت بالجرعتين، وكشفت ذراعها أو تنوي أن تكشفه لأجل التطعيم بالثالثة متى انتهت مهلة الستة أشهر التي أوصى بها العلماء لأصحاب القرار السياسي. هذه الفئة العملية ميزتها الكبرى أنها مطمئنة إلى التدابير الحكومية، مقدرة للجهود الجبارة التي بذلت لحدود الآن لتأمين اللقاح للمغاربة، وملتزمة بتبعات وقوانين الحرب التي فرضها هذا الفيروس اللعين، ومع ذلك نراها اضطرت إلى أن تتوارى إلى الخلف هذه الأيام مخافة أن تتعرض للتنمر الفيسبوكي من طرف من حولوا الحرب ضد كوفيد 19، من حرب علمية إلى حرب سياسية إعلامية، وإلى معارضة مقنعة ظاهرها النضال من أجل حرية الجسد، وباطنها ليس غير إعلان القرف من الحياة الجديدة التي نعرف أنهم لا يطيقونها، ويعرفون بدورهم أننا لا نطيقها أيضا مثلهم، ولذلك نراهم يتشجعون ويدعون الملقحين للتظاهر معهم.

 

و مع اندفاع المشككين في الجرعة الثالثة وحماسهم، وتخاذل من تلقحوا في إشهار قناعاتهم، يلتبس الأمر على عدد كبير من المواطنين الذين قد يتعذر عليهم تمييز من من الموقفين على صواب، وهو ما قد يهدد، إذا ما تأثروا بارتفاع الأصوات، بتخلي الكثيرين منهم عن إيمانهم بنجاعة استراتيجية المناعة الجماعية التي ينتهجها المغرب في الحد من تغول الفيروس وتجنيب البلاد الكوارث الصحية المحتملة، ولذلك نحن مضطرون إلى أن نعرض على الجميع بعض الأفكار، وإلى  أن ندعو الكل إلى جولة قصيرة عبر أربعة بلدان مختلفة من العالم، نتعرف فيها على حكاية الجرعة الثالثة، وكيف أصبحت من الضروريات في ظل الوضع الوبائي العالمي الحالي.

 

دعونا أولا نشرح أن كورونا ليست أول فيروس يحتاج إلى جرعات معززة، ولعله أول فيروس نتحدث فيه عن جرعة ثالثة.. علماء الفيروسات والاطباء كانوا دائما يسمون الجرعات الإضافية تذكيرا، كثيرة هي الفيروسات التي تحتاج إلى جرعات متعددة داعمة للمناعة التي تنام أو تنزل بعد برهة من الزمن، ومن الفيروسات من يتطلب تحيين الجرعة كل سنة كالأنفلونزا بسبب تحور الفيروس، ولعل الجديد في كل هذا أن البحث العلمي بشأن كورونا يجري هذه الأيام تحت أعين الإعلام، مما يسك لنا مصطلحات جديدة كل الجدة كمصطلح الجرعة 3، هناك من تلقى عشرات الجرعات ضد الزكام، ولكنه مع ذلك يعتبر كل جرعة تخص سنة واحدة بعينها، فلا يحدثنا أنه تلقى 16 أو 20 جرعة على سبيل المثال، ولذلك ليس هناك جعجعة كبيرة فيما يخص الزكام الذي ألفه الناس، المشكلة التي تواجهنا الآن هي أننا لم نتعرف بعد على وتيرة التلقيح التي ستستقر عليها في النهاية هدنة الحرب مع كورونا، هل جرعتان في السنة؟ وهذا في رأيي مستبعد جدا. هل جرعة واحدة كل سنة؟ أو كل سنتين أو ثلاث سنوات؟

 

لا ندري لحدود اليوم، فتطور الوباء هو من سيحسم الموضوع، ولذلك فالبشرية مدعوة لكثير من الصبر والجلد، ثم ربما هذا أول فيروس سيكون علينا أن نتلقح ضده جميعا وباستمرار، وليس فقط ضعفاء الصحة، وهذا في حد ذاته  استفزاز وعبئ لن يتحمله البعض منا خصوصا من يتمتع الآن بصحة جيدة، فنحن جميعا قد دأبنا على اعتبار اللقاحات خاصة بمرحلة الطفولة وبأصحاب الصحة الهشة..

 

ولكن دعونا من هذه السيناريوهات التي مازالت بعيدة ولو أني أراها ستحصل على المدى القريب، ولنذهب إلى بلدين أوروبيين سيسعفان كثيرا في الجواب عن هذا السؤال الآني، لماذا جرعة ثالثة؟؟ كلنا يعرف أن بريطانيا كانت أسبق من فرنسا إلى التلقيح بفضل لقاح استرازينكا الذي طورته جامعة أوكسفورد.. وكلنا بتذكر كيف انتشت لندن بتفوقها على كل دول الاتحاد الأوروبي، وهي تلقح شعبها قبل الجميع، خصوصا وأن طلاق البريكسيت كان طريأ جدا بينهما. وكلنا يتذكر أيضا ارتباك باريس والانتقادات التي تعرضت لها الحكومة الفرنسية التي أطلقت حملة التلقيح متأخرة بشهرين عن بريطانيا. ولكن لسنا كلنا على إطلاع هذه الأيام -بسبب المشاغل طبعا- أن بريطانيا تشهد ارتفاعا صارخا في عدد الحالات يصل إلى 50000 حالة في اليوم، بينما الوضع الوبائي في فرنسا شبه مستقر، إذ بالكاد تجاوزت مؤخرا عتبة 5000 حالة، فهل يا ترى في الأمر سر او معجزة فرنسية؟؟

 

الحقيقة أن تفسير ذلك يكمن في أن مناعة الشعب البريطاني بدأت تنزل قبل أن تنزل مناعة الشعب الفرنسي، لأن الأول كان أسبق من الثاني في التلقيح، فسبقه إلى نزول المناعة المترتبة عن هذا التلقيح. من هنا نستنتج أن المناعة التي توفرها اللقاحات تنخفض بمرور الوقت، وهذا الوقت قدرته الملاحظة الطبية الدقيقة والأبحاث العلمية من خلال تحليل سجلات المرضى وسباقات الاستشفاءات وقياس تطور الأجسام المضادة لدى الملقحين في ستة أشهر إلى ثمانية أشهر. ولذلك تفهم فرنسا وتقدر أنها ستشهد نفس الارتفاع البريطاني في الحالات، إذا لم تبادر إلى الاستفادة من ذاك الدرس، وتقوم بإعطاء الجرعة الثالثة لمواطنيها.

 

صحيح أنها قد بدأت الآن بالمسنين وذوي الصحة الضعيفة، ولكن من المؤكد أنها ستمدد الجرعة الثالثة لتشمل الجميع، هذا ما ينادي به خبراء الصحة هناك. فرنسا التي تتوقع موجة قادمة بسبب تناقص مناعة الملقحين تسارع الزمن، ولربما قد تفعل مثلنا، بل ومن المؤكد أنها ستقلد المغرب وستربط تحيين جواز التلقيح بتلقي الجرعة 3 خصوصا بعد أن تبين لها تلكؤ الفرنسيين في الامتثال لهذا الإجراء الطبي، إذ لم يتوجه سوي2,5 مليون مواطن من أصل سبعة ملايين ازف موعد تلقيحهم بالجرعة 3؛ وبالتالي ينضاف 4,5 مليون فرنسي لاحتياطي فرنسا الحجر من أولئك الذين ترددوا في الحقن بالجرعة الأولى.

 

يزداد هذا الأمر إلحاحا مع بروز الطبعة الجديدة من متحور دلتا السريع التفشي الذي يهدد باكتساح أوروبا (دلتا بليس)، وبعدها الانتقال إلى كل بلدان العالم، ومن  ضمنها بالطبع بلدنا الحبيب المغرب لا قدر الله ، إذا لم نبادر نحن أيضا بالانخراط بشكل جدي ومنتظم كمواطنين في تلقي الجرعة الثالثة متى حان موعدها، فرنسا وأوروبا تتوجسان من فصل الشتاء الذي تنتعش فيه الفيروسات التنفسية، ويميل فيه الناس الى البقاء في الأماكن المغلقة وفي البيوت اتقاء لمغبة البرد القارس، ولذلك فالدول الذكية التي بدأت تفهم خطط كوفيد 19 ومناوراته تذهب في الاتجاهين معا: فرض جواز التلقيح وضمان الجرعة الثالثة لشعوبها، والحقيقة أن إسرائيل كانت أول من دق جرس الإنذار للعالم حول ضرورة إعطاء جرعة ثالثة، بعدما لاحظت أن الجرعتين لم تعودا مجديتين لدى مسنيها، وأنهم لم يصبحوا عرضة للإصابات الخفيفة فقط، بل شرعوا يتقاطرون على مصالح الإنعاش والعناية المركزة.

 

أمامنا أيضا المثال التونسي الفاضح، تونس التي فرضت جواز التلقيح بعد أن تجاوزت الوفيات فيها حاجز25000 وفاة، لا تريد أن تنكب مرة أخرى بالفيروس، ذلك أنها تعي أن تغطيتها باللقاح ضعيفة جدا نظرا للأزمات الحادة الأخرى التي تتعرض لها، وذلك بسبب تأخر البرلمان المنشغل قبل تجميده بالنقاشات العقيمة عن إصدار قانون الطوارئ تاركا البلاد نهبا للفيروس.. تونس تحاول الآن مداواة الفشل، فتفرض جواز التلقيح ولو دون أغلبية ملقحة.. في تونس الجرعة الأولى او الجرعة الثانية تعادل الآن عندنا الجرعة الثالثة.. لقد تأخرت تونس كثيرا ودفعت الثمن باهظا.

 

الاستراتيجية المغربية ناجحة جدا، عندنا  أكثر من 22 مليون مواطن بالجرعتين، وهذا يعني مكسبا ثمينا ينبغي الحفاظ عليه، ولذلك الجرعة الثالثة تبقي من ضعفت مناعتهم ضمن دائرة الملقحين، بهذا الشكل لا تكون هناك ثقوب في مناعتنا الجماعية التي سوف تكبر يوما بعد يوم دون أن تنقص. إننا أشبه ما نكون بقافلة تجتاز صحراء آهلة بالمتربصين، نحتاج أن نحرس أول وآخر القافلة حتى تتقدم كلها بسلام. نحن نتطلع إلى ملقحين جدد، وفي نفس الآن لانفرط ولا نضيع الملقحين القدامى. لدينا فرصة كبيرة وذهبية لكي نستفيد من أخطاء الآخرين وقصورهم، فعندما تجتهد لوحدك وتخطئ فأنت مع ذلك بطل بكل المقاييس لأنك حاولت، أما عندما تكرر أخطاء الآخرين، فأنت لست سوى مدع او مهرج.. وفي مجال التلقيح وبالخصوص التلقيح ضد كورونا، يمكن أن نفخر بأن المغرب قد أصبح مدرسة للآخرين عليهم أن يستفيدوا من استراتجيته الناجعة  كما استفاد هو من أخطاء البعض منهم.

 

قد يتنطع البعض ويتعلل بأن منظمة الصحة العالمية ليست مع الجرعة الثالثة، لكنه ربما لا يدري أن هذه المنظمة المسؤولة عن صحة العالم تجد حرجا كبير في أن توصي بهذه الجرعة وبقاع شاسعة من العالم الفقير لم تتلقح لحدود الآن بالجرعة الأولى.

 

ولذلك، فرأيها هذا سياسي وليس علميا. حيث أن الدول البرجماتية التي تبحث بكل الطرق عن مصلحة شعوبها تعي عدم وجاهة هذا المنحى علميا، وبالتالي قد شرعت في الجرعة الثالثة لأنها تعرف ضرورتها القصوى. والمغرب من بين هذه الدول التي تنهج سياسة برجماتية مفيدة في مجال التلقيح ضد

كورونا وهذا ما ينبغي أن نفتخر به.

 

يبقى سؤال أخير: هل استعد المغرب جيدا لتوفير الجرعات الإضافية؟؟ أعتقد أنه قد فعل ذلك، وبشكل استباقي كعادته، فعندما سنشرع محليا في شهر ديسمبر في إنتاج خمسة ملايين جرعة شهريا، وهو ما يعني 60 مليون جرعة سنويا، فذلك يعني أن المغرب يمتلك عناصر مقومات نجاح سياسته التلقيحية، وقادر على توفير الجرعات الكافية لشعبه. وهذا ما يسمى بالسيادة اللقاحية التي هي من أولى ضروريات الدخول إلى عالم ما بعد أزمة كورنا التي حتما ستنتهي يوما ما.. وتبقى  معنا كورونا من دون أزمة. أما حاليا فعلى المغاربة الذين مر على تلقيحهم بالثانية 6 أشهر أن  يختاروا التوجه نحو الجرعة 3 دون انتظار  رسالة وزارة الصحة، لأن الخيار الآخر سيكون هو القبول بتعريض البلاد لموجة أخرى ربما قد لا تكون أشرس من سابقاتها، ولكنها تبقى موجة لا نريدها لبلادنا، خصوصا أنها ستأتي في وقت قد بلغ فيه إنهاك الأطر الطبية كل مبلغ. وهنا مكمن خطورتها.

 

إننا عندما نقبل على التلقيح بالجرعة الأولى والثانية والثالثة، نقلل من إمكانية بروز متحورات تحمل علامة صنع في المغرب، كما حدث لبريطانيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا... إلخ.

 

فلنحترس.