لحسن العسبي: العدوان الجزائري والتاريخ الذي لا يمشي بالأهواء

لحسن العسبي: العدوان الجزائري والتاريخ الذي لا يمشي بالأهواء لحسن العسبي
لماذا يصر الرئيس الجزائري على ممارسة "القصف العشوائي" ضد الأمل في منطقتنا المغاربية؟. وبم يمكن تفسير مهادنته الدائمة لباريس، رغم كل القصف المركز (رمزيا وقيميا) الذي تخصه به وحاشيته من جنرالات السلطة، في مقابل تهجمه المثير، الذي تحركه الضغائن، كلما قدم المغرب والمغاربة له وللسلطة الحاكمة هناك يدا ممدودة من أجل التعاون والتكامل بدون أية شروط مسبقة؟. ولم يستقيل عقل السياسة بقصر المرادية، كلما كان الموضوع هو المغرب والمغاربة، مما يفسح المجال لخطاب تعال وقدف واستفزاز لا يليق برؤساء الدول؟.
ذلك ما تحاول هذه الورقة التوقف عنده، من خلال قراءة للخرجة الإعلامية الجديدة للرئيس عبد المجيد تبون على القناة التلفزية الرسمية لبلاده، التي جدد فيها "رياضته" المفضلة لكيل الإتهامات للمغرب والمغاربة، في كذب على الحقيقة والواقع، وعبر محاولة لعب دور الضحية المعتدى عليه، مما يفرض إعادة موضعة جدية لمعنى "العدوان" كما تمارسه بلاده فعليا ضد كل ما هو مغربي ومغاربي.
في التحديد الواجب للمعتدي والمعتدى عليه
تعيد الخرجة الجديدة لرئيس الجمهورية الجزائرية عبد المجيد تبون، في حواره الدوري مع الصحافة الجزائرية، مسألة "معنى العدوان" إلى الواجهة هناك، فقط حين يتعلق الأمر بالمغاربة والمغرب، بالشكل الذي يفرض إعادة موضعة لحقيقة "المعتدي والمعتدى عليه" بين الدولتين. ولعل ما يجب تسجيله في حوار الأحد الماضي، أن مستوى أسئلة الصحفيين هذه المرة كانت مهنية ومحترفة، خاصة أسئلة الزميل والصديق فيصل مطاوي، مما جعل في مكان ما مستوى الحوار متقدما عن مجمل الحوارات المماثلة السابقة. لأنه في كثير من المرات مستوى من يحاور، يعلي أيضا من مستوى ردود وأجوبة المحاور.
إن ما يسجل جديا، باستغراب، في الخرجة التواصلية الإعلامية الجديدة للسيد تبون، مساء الأحد 10 دجنبر 2021، على التلفزيون الرسمي الجزائري، هو أنه كان منطقيا وهادئا ورصينا في مختلف محاور اللقاء، إلى أن افتتح الزميل مطاوي الشق المتعلق بأسئلته عن المغرب والمغاربة، حيث أصبح الرئيس الجزائري آخر تماما، فقد اختل ميزان التحليل لديه، ليحل محله منطق القدف والتحامل، وورود حتى نوع من قاموس التعالي والأحكام المسبقة. بل لعل المثير أكثر هو أنه حين تحدث وحلل مرحلة الأزمة الجديدة مع الرئاسة والحكومة الفرنسية، أكد أن "التاريخ لا يمشي بالأهواء" وأن "التاريخ لا يزيف"، لكن ما أن فتح الباب أمامه للحديث عن المغرب والمغاربة، حتى نسي تماما ذلك، هو المدرك أكيد حقيقة التاريخ الوطني للمغاربة وحقيقة نضالهم من أجل استكمال تحرير أراضيهم من الإستعمار في الصحراء الغربية للمغرب وفي باقي مدنه وجزره التي لا تزال محتلة بالشمال على الضفة المتوسطية، في المقدمة منها مدينتا سبتة ومليلية (للأسف بعض الإعلام الجزائري وبعض النخبة الحزبية والسياسية الجزائرية هي الوحيدة في العالم التي تناصر مدريد ضد حقوقنا الوطنية في تحريرها واستعادتها). فالتاريخ فعلا لا يمشي بالأهواء ولا يزيف، وتاريخنا النضالي الوطني من أجل استكمال وحدة أراضينا المغربية، يقدم الدليل على أن "الوطنية المغربية" قد شحذت أصلا في معمدان مواجهة الإعتداءات الخارجية المستهدفة لوجودنا القومي كأمة مغربية، سواء جاءت من الشمال أو من الشرق. وذاكرة الشعوب إن كانت تتجاوز وتسامح أحيانا، فهي لا تنسى أبدا سيرة المعتدين، كل المعتدين. وليس من باب الترف الفكري أن قال مفكرنا المغربي الكبير عبد الله العروي "إن المغرب جزيرة مطوقة بالمخاطر من كل جهاتها". كذلك كان الأمر في ما مضى من أيام الناس، وكذلك لا يزال الأمر اليوم. ونحن مغربيا من أكثر الأمم معرفة فعليا بمعنى "الإعتداء".
المثير، هو أنه حين سئل السيد تبون عن آفاق العلاقة مع باريس، وهل هناك أفق للقطيعة معها، رد بما يفرضه المنطق الديبلوماسي المسؤول لرجل الدولة بما معناه أن العلاقة بين الدول لا يحكمها منطق الضغينة، وأن المستقبل تحكمه استمرارية المصالح وحسن الدفاع عن تنظيمها بما يخدم الطرفين وأن القنوات لا تغلق أبدا حتى في اللحظات القصوى لاشتداد الأزمات، وأنه حين يتم تجاوز أسباب التصعيد الحالية ستعود الأمور إلى طبيعتها العادية تعاونيا، حتى والرئاسة الفرنسية قد قالت في "الهوية الجزائرية الحديثة" ما لم يقله أحد من قادة العالم غيره. لكن حين سئل عن آفاق العلاقة مع المغرب والمغاربة، وإمكانية وساطة من هنا وهناك، أغلق الباب بشكل انفعالي مثير، وصدر عن منطق للضغينة مثير. مما يطرح السؤال كبيرا حول المنطق الذي يحكم المواقف الرئاسية الجزائرية دوما حين يتعلق الأمر بنا كمغاربة، إذ حينها يختفي منطق المسؤولية السياسية لرجال الدولة ويحضر منطق ردود الفعل، ومنطق حالة نفسية مثيرة. بدليل انسياق سيادته وراء جمل مثقلة بمنطق للتعالي والتحدي غريبة، من قبيل: "للي حوس علينا يلقانا". وهذا يقوم لوحده مادة للتحليل والقراءة تستحق الإهتمام بأدوات التحليل السياسي النفسي.
بالعودة إلى مقولة "المعتدي والمعتدى عليه"، وإصرار عبد المجيد تبون، على محاولة جر النقاش عموميا دوما حين يتعلق الأمر بالمغرب والمغاربة، إلى لعب دور الضحية، فالحقيقة الفعلية الملموسة هي أن من يفتح أراضيه لتكون منطلقا للإعتداء والهجوم على أمن المغاربة واستقرارهم، ويستنزف حقهم في التنمية عبر إثقال فاتورة اقتصادهم، هي الدولة الجزائرية. ولأن كلام العقلاء منزه عن العبث، يحق لنا هناالتساؤل، أمام ضمير الشعب الجزائري وشعوب منطقتنا المغاربية، إن كان قد سجل ولو مرة واحدة أن تسللت عناصر بعشرات المئات، مسلحة بأثقل أنواع الأسلحة من المغرب صوب الجزائر، مثلما تفعل السلطات الجزائرية منذ 1975 (وحتى قبلها)، حيث الأراضي الجزائرية مجال ومنطلق تسلل عناصر مسلحة من جنسيات مختلفة (وهنا سر رفض إجراء إحصاء أممي لساكنة مخيمات تيندوف دوما من قبل الحكومة بالجزائر العاصمة) مزودة بالسلاح ومؤطرة بفرق اللوجيستيك العسكري والمخابراتي الجزائري؟. الجواب طبعا، الذي يفرضه الواقع الملموس، هو:لا.
بالتالي، إن "معنى العدوان" يفرض هنا فعليا إعادة تقويم في الفهم المؤسس لرؤية السلطة الجزائرية. لأن المعتدى عليه، واقعيا هنا، ليس فقط المغرب والمغاربة، بل أيضا الشعب الجزائري وباقي شعوب منطقتنا المغاربية، من حيث أن تلك الجريمة تقوض كل أسباب الأمن والإستقرار الميسرة لطريق اقتناص حقوق شعوبنا كافة في التنمية والتكامل والتقدم والإستقرار، حين تفتح الجزائر أراضيها منذ أكثر من 40 سنة لتكون منطلقا للإعتداء على المغرب، بكل ما خلفه ذلك من شهداء مغاربة وخسائر مادية، قبل وقف إطلاق النار سنة 1991 برعاية أممية، والذي واصلته بقرارات إغلاق الحدود منذ 1994 واليوم قطع العلاقات الديبلوماسية. فهو عدوان مركب إذن، تمارسه تلك الخيارات السياسية هناك للأسف بقصر المرادية. ولعل من مكرمات واقعنا المغاربي، أن الدولة بالمغرب لم تنسق أبدا، تأسيسا على ما تفرضه عليها مسؤوليات "رجال الدولة"، وراء منطق "ألا لا يجهل علينا أحد، فنجهل فوق جهل الجاهلينا". فأمور الدول ومصالح الأمم والشعوب لا تكون بالعنتريات، مثلما نزل إليها السيد عبد المجيد تبون في خرجته التواصلية الإعلامية الجديدة. وأن بلادنا انخرطت بما هو متوفر في اليد من إمكانيات، رغم تحديات واقع مكبل في الجوار الجغرافي والجهوي، في مسلسل للتنمية والتطوير مؤسساتيا وسياسيا وحقوقيا وإنتاجيا، في انتظار أن ينتصر التعقل ذات يوم هناك في بلاد الأمير عبد القادر، التي المغرب والمغاربة موقنون أن العلاقة مع أهلها هي علاقة سيامية.
الحرب ليست غدا
لا يمكن، أيضا، لكل قارئ حصيف أن لا ينتبه لجملة الرئيس الجزائري "يبدا هو والله ما تنتهي". فرغم ظاهرها، الذي فيه تلك "النفخة والفزعة" المعلومة في شكل التواصل الخاص ب "ذهنية النخبة الحاكمة هناك"، فإن رسالتها الثاوية ضمنيا هي أن الجزائر لن تبدأ الحرب مع المغرب. وبيقين الواقع الملموس فإن المغرب لم ولن يكون أبدا البادي بالإعتداء على الجزائر، مما تكون خلاصته أن مخاطر الحرب بعيدة إذن، رغم كل التصعيد الكلامي الإستفزازي، والإستعراض العسكري، لقيادة الجيش الجزائري وإعلامه وآليات تواصله الظاهر منها والموارب. دون إغفال عدم الإشارة، من قبل الرئيس تبون، ولا مرة إلى مقولة "العدو الإسرائيلي عند الحدود"، رغم الإلحاح المبطن والفطن للزميل مطاوي، وأيضا الحرص على عدم السقوط في تخوين أو التحامل على الدول الإفريقية المزداد عددها الكبير والوازن في الإنتصار للحق المغربي في استكمال وحدته الترابية.
لا يمكن أيضا إغفال ملامح رؤية سياسية تدبيرية جديدة عند السلطة بالجزائر، على المستوى الإقتصادي، بدأت تتضح أكثر مع تواتر خرجات السيد تبون الإعلامية، خاصة حين حديثه لأول مرة عن تغيير الرؤية جزائريا للشأن الإقتصادي في العلاقة مع نظام السوق، من الموقف المسبق المحكوم بالرؤية الإيديولوجية العتيقة التي ظلت تحكم النخب الحاكمة هناك، إلى رؤية أصبحت مقتنعة بشروط نظام السوق ودور القطاع الخاص الحيوي في تعزيز دورة الإنتاج، وفي القطع مع اقتصاد الريع. ولعل من علامات ذلك التحول، عنوانا عن بداية تبلور رؤية مسنودة بما يمكن تلمسه من "خارطة طريق تدبيرية جديدة"، إحالته على ضرورة الإستفادة من تجربة النموذج التنموي الإيطالي (وليس الفرنسي)، المعروف ارتكازه منذ الحرب العالمية الثانية على تعزيز دور المقاولات الصغيرة والمتوسطة، ثم إعلانه الرهان على تطوير منظومة الفلاحة الجزائرية لتصبح رافدا إنتاجيا، مع ملامح بداية التخلص من الإعتماد فقط على عائدات الغاز والبترول.
هل سينتصر منطق التعقل الإقتصادي التدبيري، مغاربيا، على منطق "البلوكاج الإيديولوجي" في الرؤية السياسية للنخبة الحاكمة بالجزائر الشقيقة؟. ذلك ما يتمناه كل المغاربيين، لأن انتصار ذلك المنطق العقلاني، المنتصر لأولوية ترتيب المصالح بمنطق "رابح رابح"، يكون دوما انتصارا لحصافة تنظيم التعاون مع الجوار، بشكل تكاملي وتعاوني، ويكون السبيل الأقوم لحصانة الداخل الوطني في أمنه التنموي. حتى وإن كانت حكاية الترويج لضبط مكالمات من باريس والرباط في التحقيق القضائي المفتوح بخصوص حرائق صيف 2021، التي لا تقوم دليلا عاقلا ومفحما لاتهام الدولة المغربية أو غيرها، بما تريده السلطة بالجزائر العاصمة، هي بعض منالتشويش على ذلك الأمل في تطوير الرؤية الإستراتيجية للتدبير العمومي هناك، بمنطق الدولة ومسؤوليات رجال الدولة.