مصطفى العراقي:"ثورة الأيام الأربعة" لعبد الكريم جويطي..رقي المحتوى ونقاء اللغة

مصطفى العراقي:"ثورة الأيام الأربعة" لعبد الكريم جويطي..رقي المحتوى ونقاء اللغة مصطفى العراقي، وغلاف كتاب"ثورة الأيام الأربعة" لعبد الكريم جويطي
في البداية لابد من كلمة استنتاج وأنا أنهي قراءة رواية الكاتب الصديق عبد الكريم جويطي " ثورة الأيام الأربعة" . إنها نص راقي في محتواه نقي في لغته متماسك في بنائه .. وأضيف الى كل ذلك وغيره مع الإشارة إلى أنني لست ناقدا ولم أدلو بدلوي من قبل بتقييم كتابي لأي رواية أن رواية الأستاذ جويطي اعتبرها من أجمل الروايات التي قرأتها على الإطلاق.
تتخذ "ثورة الأيام الأربعة" أحداث مارس 1973 موضوعا لها . لكنها لا تغرق في التقييم السياسي لما وقع في تلك المرحلة ولا تقف في منبر خطابة لتشيد أو تعارض ما حدث هكذا بشكل مباشر .
رواية تذيب وقائع مجرى في بحر إبداع تتنوع أمواجه بين التاريخ والسوسيولوجيا والأسئلة الحارقة والجغرافيا والصور الإبداعية الرائعة والمعرفة...إلى درجة أني شعرت بأنها رواية مركبة من نصوص استطاع جويطي أن يجعلك تعبر من نص الى آخر دون أن تشعر بتغير في درجة حرارة بينها أو تباين في مسار الخيط الناظم لها ...
أعتقد، بل إنه استطاع بناء نص منسجم كأنه قصص قصيرة أحيانا أو لوحات تشكيلية مبهرة أحايين عديدة.
في دلالة معبرة عن افق بدأت الرواية في فقرتها الأولى بطلقة رصاص مبهمة تبين أنها جريمة قتل قام بها من سيقود مجموعة رجال الى أعلى جبل للقيام بثورة ...طلقة أبعدت سرب حمام فزع عن دور العمال وكأن الكاتب أراد أن يشير الى أن هذه المجموعة الثورية كان عليها أن تلتحم بالعمال بدل تركهم هناك في السفح وتطير الى ...قمة معزولة. أي قطيعة هاته وبني ملال التي ابتدأت منها الرحلة تعد إحدى مدن سهل تادلة الذي يعج بالعمال والفلاحين .ولم يكن منهم ولا واحد في هذه النواة "الثورية".
وفي دلالة ثانية معبرة هو أن الصعود تم في ليل قاتم زادت قتامته تناسل أسئلة تردد وضياع وتيه يعبر عنها الراوي . " استسلم كل واحد منا لعزلة قاهرة تعقد اللسان وتجعل النفس تتجرع فداحة ما نحن مقدمون عليه ..."(ص 18) .ليل طويل ذو جغرافيا وعرة بصخورها ومساربها ارهقت البغال ودفعت القلوب الى الحناجر .
ليل كلما تقدموا فيه خطوة ازدادت العزلة خطوات لأن جهاز الاتصال معطوب منذ البداية . ومن سيحمل خبر التأجيل تعطلت شاحنته ( ص 131). فكيف لثورة أن تحدث بهذه القطيعة التواصلية للاستقبال وللإخبار؟...
لم يفض هذا الليل الطويل إلا إلى صباح "صغير" تضاءل أمام جغرافية صخرية تتناثر على ضفتي وادي دور واطئة تعيش زمنا متشبثا بالماضي أكثر من الحياة بالحاضر .. وحتى اقتحام ثكنة منبوذة معزولة كعزلتهم تركتها فرنسا هناك لم يزد المجموعة "الثورية" سوى شكا بأن بداية الثورة ليست هي البداية بل هي بداية نهايتهم في هذه المغامرة التي دفعهم اليها "العالم بكل شيء". "تكنة صالحة للضجر وحراسة الهباء" (ص111).
جويطي وهو الباحث في التاريخ أيضا وله مؤلفات قيمية في هذا المجال يبدو أنه نقب كثيرا في ما كتب حول هذه الأحداث واستمع الى شخصيات أتيحت له فرصة اللقاء بهم ليمسك ب"منجزات " المجموعة في يومها الثوري الأول: الاستيلاء على ثكنة خالية على عروشها بشرا وسلاحا ووثائق. إغلاق ماخور كان على مرمى حجر من الثكنة ...ودون ذلك مراوحة بين ساحة ومطعم ونقاشات لا تنتهي...
"ثورة" بنيت على تقديرات عديدة لم تكن صائبة وبحجم توقعات من خطط أو ربما كان على علم بحقائقها .من بينها إيهام المجموعة ومجموعات أخرى بأنهم سيستولون على ترسانة من الأسلحة بالثكنة أو بمركز مولاي بوعزة ..لكن ما تم اغتنامه مجرد بنادق مهترئة .ومنها أن المغرب يعيش غليانا يحتاج الى عود ثقاب "هناك حالة إحباط في البلاد وسخط عام علينا أن نمنحهما عن طريق هذه الثورة ، شكل التعبير عن أنفسهما".( ص167).وحتى سكان الجبل على قلتهم حيث كان الاعتقاد بأنهم سيحتضنون الثورة كانت هناك قطيعة التواصل معهم لغويا جلسوا ينظروا الى خطيب متحمس وكأن على رؤوسهم الطير ..."هل تراهنون على هذا الجبل ...رهانكم خاطئ ...الجبل مجروح ومنهك...أتيتم في الوقت الخطأ"(ص 322-323).
تقديرات، هل كان "العالم بكل شيء" يعرف حقيقتها؟ يقول قائد المجموعة (ص 376): "في كل الأحوال، ومهما حدث، سنكون إما ثوارا وإما قرابين قدمت للنظام من أجل عقد تسوية ما".
في الثورات لابد من معرفة قادتها لخرائط الواقع وموازين قوته .في سؤال من ضمن أسئلة حيرة وشك تطرحها الرواية على لسان شخصياتها : "هل حللنا الواقع بما يكفي؟ هل نحن على يقين بان الشعب الذي كان ومنذ ثماني عشرة سنة فقط وهي لا شيء في التاريخ ، لا شيء، كان يرى صورة السلطان في سطح القمر تملكته فجأة روح ثورية؟" ( ص 206).
في الثورات لا بد أن تكون هناك مرجعية فكرية وهو ما افتقدته "ثورة الأيام الأربعة" وهو ما سطرت عليه الرواية في أكثر من حوار أو تأمل ." أين هو فولتير وأين هو روسو المغربيان .أين هي الأفكار التي تلهم أهل الوادي؟؟"(ص185)." الثورات الحقيقية تترافق مع حركة أفكار جديدة...ثورة بلا أفكار تحدث صخبا وتبني أوهاما وتحدث خرابا وتغير وجوها، لكنها لا تمس الماضي ، بل تقويه من خلال تجديده وطلائه بلون المرحلة"(ص 199).
وأنت تقرأ الرواية يأخذك عبد الكريم جويطي في كل مرة الى باحات استراحة تشكل جزءا أساسيا من البناء الروائي الرائع .أو يدعوك إلى تأمل لوحات فنية تزين جدران الرواية وتزيدها بهاء . ها هي تصميت وقمتها التي تشرف على مدينة بني ملال وكأنها مجسم بالصفحة 33 من الرواية .. وفي محطة "الإصلاح" (ص 42-43) وكأنك تجلس بانتباه لعرض فلسفي عميق حول الموضوع.. وفي الصفحة 66 ترسم الرواية بورتريه للخائن وتعاريف للخيانة ..
وفي باحة المقارنات يبرز ما خفي وما ظهر لدى ابن خلدون والمتنبي وكأن الإحباط وقود للإنتاج الفكري أحيانا ( ص 169-170) .أو المقارنة بين الأفكار والبذور ( ص 207)...وكثيرة هي باحات التأمل التي زرع فيها عبد الكريم جويطي حدائق من الابداع تتابعها وأنت مشدود الى هذا التمكن في الصياغة ورسم الصور...( السلحفاة سرمد ( ص 45) أو الموسيقى ( ص 138)أو المرأة تودا صاحبة الماخور...
لا أدعي أني ناقد ولم يسبق لي كما قلت سابقا أن وضعت رواية على مشرحة النقد ..قد تكون قراءتي ل"ثورة الأيام الأربعة " حادت عن الأصول المعتمدة لدى المختصين .. لكن انبهاري بهذه الرواية دفعني الى الكتابة عنها مغامرة الكتابة حولها.