عبد المجيد طعام: انهزام البيجيدي..أفتاتي يتقمص شخصية النبي الماركسي

عبد المجيد طعام: انهزام البيجيدي..أفتاتي يتقمص شخصية النبي الماركسي عبد المجيد طعام
كان للانتخابات الأخيرة صدى كبيرا على النخبة السياسية والثقافية، والفئات الاجتماعية باختلاف انتماءاتها، وولاءاتها، ولأول مرة فتح نقاش مجتمعي واسع حول النتائج، وحول ما أصبح يعرف ب "الفعل العقابي" الجميع يتحدث عن هذا العقاب، النخبة والعامة، الجميع صفق بحرارة ولكن لا نعرف لماذا صفقنا بالضبط؟ لمن صفقنا؟ هل حقا صفقنا للفعل العقابي ؟
لا نعرف المهم صفقنا ، وإن كنا لا نعرف مآل هذه التجربة الانتخابية خاصة وأن الانتظارات قد تفوق قدرة وإمكانية أية تشكيلة انتخابية . التحالفات الحزبية في حد ذاتها قد تنتج عنها إشكالات عويصة ، ذلك أن كل المؤشرات تدل على أن الحزب المتصدر للمشهد السياسي يملك هامشا كبيرا ومريحا لتكوين أغلبية حكومية جد مريحة لكن في المقابل يبدو أن أمر تكوين معارضة قوية وفاعلة سيكون صعبا ، ويرى الكثير من المهتمين أن الاتجاه قد يدفع نحو تقسيم الأدوار بين الأحزاب .
كالعادة خرج الكثير من قياديي الأحزاب السياسية ببيانات وتصريحات تنوعت في الشكل والمضمون . كان قياديو البيجيدي من أكثر السياسيين الذين خرجوا ببلاغات أو ملاحظات أو انتقادات نشرت على الفيسبوك بصفحاتهم الرسمة .
كل قياديي البيجيدي عبروا عن مواقفهم من الهزيمة ومن الانتخابات وأقروا بوجود تجاوزات ،ومن أبرز الذين أثروا مكتبة التدوينات الفيسبوكية نذكر الشوباني وعبد العزيز أفتاتي القيادي المثير للجدل .... لن نهتم بكل ما كتبه قياديو البيجيدي وإنما سنخصص الحديث عن آخر تدوينة للأستاذ أفتاتي ، لأنها أثارت جدلا واسعا على منصات التواصل الاجتماعي ،ما ماذا كتب أفتاتي ؟ هل عبر عن موقف سياسي جديد تبناه البيجيدي؟ أم تجاوز حدود الحزب ليعبر عن موقف من النظام السياسي ككل؟
على رغم من أن عبد العزيز أفتاتي لا يضع العمامة على رأسه ،إلا أن العمامة كثقافة وكمرجعية حاضرة بكل قوة ، ألم ينل بفضلها صحبة إخوانه ثقة جمهور واسع ؟ ألم تكن المرجعية الدينية أساس البرنامج السياسي لحزبه ؟
إن اكتساح الساحة السياسية الذي تحقق للبيجيدي في ولايتين متتاليتين رفع سقف طموحات هذا الحزب إلى درجة أنها تجاوزت حجمه كما تجاوزت قدرته على تحقيق أبسط انتظارات الشعب بل بالعكس في الولايتين معا سطا الحزب على المكتسبات الشعبية لصالح الرأسمالية المتوحشة . كان حزب العدالة والتنمية فريسة تضخم "الإيغو" لدى أغلب قيادييه إضافة إلى أنه يعاني من غياب الرؤية السياسية. وصل إلى السلطة بدون برنامج سياسي ، يحمل خطابا شعبويا أدخل الشعب في متاهة البحث عن التماسيح والعفاريت ،في آخر المطاف قال بنكيرن " عفا الله عما سلف " . خلق قياديو البيجيدي عداء مع النخبة السياسية ومع الجماهير الشعبية التي لم يعد يستهويها التهريج السياسي لبنكيران والقرارات اللاشعبية التي اتخذها وزراء الحزب إضافة إلى المواقف غير المفهومة فهذا الداودي يعلن " للي بغا يقري ولادو يدير يدو في جيبو " ويصطف مع باترونا الحليب ضد الإرادة الشعبية التي اختارت مقاطعة سنترال وهذا الأزمي يدافع عن أحقية البرلمانيين في التقاعد ويعلن أنه يدرس أبناءه بمدارس البعثة الفرنسية، وهذا مصطفى الخلفي يهدد بفتح السجون في وجه المقاطعين الأخ من القرارات والمواقف التي مست شعبية البيجيدي في العمق .
رغم كل هذه المواقف اللاشعبية كان يظن قياديو البيجيدي بأنهم خارقون كما كانوا يعتقدون بأن الجماهير الشعبية تحولت إلى مجرد مريدين تابعين لهم ، يحركونهم كما أرادوا بمجرد الضغط على آلة التحكم عن بعد .
تحقق مراد إخوان أفتاتي لمدة ولايتين حكوميتين ، لكن مؤشرات بحث النظام عن بديل حزبي جديد بدأت تلوح منذ انتخابات 2016 التي بدأت بانفجارفيها أزمة سياسية خانقة سميت "البلوكاج" حيث وقف أخنوش زعيم حزب الأحرار حجر عثرة دون أن يصل بنكيران إلى رئاسة الحكومة للمرة الثانية ....بعد ستة أشهر من الفراغ السياسي انتهى البلوكاج بتعيين العثماني رئيسا للحكومة محل بنكيران.
كان البلوكاج مؤشرا دالا على أن زمن البيجيدي قد انتهى ،خلال استحقاقات 2021 خسر الحزب الإسلامي كل شيء ،لم يحصل إلا على 13 مقعدا بالبرلمان ،عدد هزيل لا يسمح لإخوان أفتاتي بتكوين فريق نيابي وبالتالي سيكون من الصعب عليهم أن يلعبوا دور المعارضة ، في الحقيقة ماذا سيعارضون ؟
إن عدم تمكنهم من الظفر برئاسة الحكومة سيحتم عليهم أن يجلسوا على مقاعد المعارضة وبالتالي سيكون عليهم البحث عن تحالفات ممكنة داخل البرلمان ،لكن من سيغامر للتحالف معهم؟
والهزيمة قاسية كان من المنتظر أن يخرج أفتاتي بموقف أو تفسير أو تبرير لكنه كتب مجرد تدوينة غريبة ، غرابتها لا تكمن في مضمونها وإنما في مخالفتها للمرجعية الإديولوجية التي يعتمدها الحزب ،إلى درجة يمكن القول إنها شذت عن التوجه العقدي والفكري للحزب .
لا أطيل عليكم إليكم أولا ما كتبه أفتاتي على صفحته الرسمية : :" ثلاث مسارات لا رابع لها :
* إصلاح جدي جذري متنام ينحته الشعب من أجل سيادة قراره بالتوجه راسا صوب خيار الملكية البرلمانية و حسم الانتقال الديمقراطي ......
* فاشية انقلابية نهج البنية العميقة و الموازية، المتحالفة مع الكمبرادورات و الرأسمال الكبير الريعي الفاسد لبضع عائلات.....
* ثورة بشتى أجنداتها و مآلاتها و احتمالاتها، في انتظار الذي يأتي و لا يأتي ......" انتهت التدوينة .
في تصريح سابق قال أفتاتي :" إذا لم يفز البيجيدي في انتخابات 2021 ،سيكون المغرب على موعد مع ثورة عارمة." مرت الانتخابات ،انهزم البيجيدي لكن الثورة لم تقم لها قائمة ، فأراد أن يشعلها على الفيسبوك ،فكتب تدوينته التي يحدد فيها المسار الثوري الذي رسمه وسماه " ثلاثة مسارات لا رابع لها " .
في المسار الأول يتحول أفتاتي بنسبة 380 درجة عن الأساس الإديولوجي الذي يقوم عليه الحزب في علاقته بالملكية ،إذ انتقل فجأة من الملكية الدستورية إلى المطالبة بالملكية البرلمانية ،طبعا الديمقراطية تبيح له بأن يرفع هذا المطلب وأن يناضل من أجل تحقيقه ،وقد عرفنا أحزابا من اليسار رفعت هذا المطلب في حملتها الانتخابية مثل ما نجد في الاشتراكي الموحد وفيديرالية اليسار . الغريب أن أفتاتي يتناقض مع التوجه السياسي لحزبه ،لم نعرف أي قيادي نادى بهذا المطلب منذ أن دخل الحزب العمل السياسي تحت مظلة المشروعية القانونية والدستورية ،فكيف اهتدى أفتاتي إلى هذا المطلب الغريب عن اديولوجية حزبه ؟ هل هو مطلب نتج كرد فعل انفعالي عن الانتكاسة ؟ أم أن أفتاتي يهيئ لانقلاب جذري داخل حزبه ؟
لا يقف أفتاتي عند حدود الطرح العلني لمطلب الملكية البرلمانية وإنما يقدم استراتيجية تحقيقه إذ يقول :" إصلاح جدي جذري متنام ينحته الشعب من أجل سيادة قراره بالتوجه راسا صوب خيار الملكية البرلمانية و حسم الانتقال الديمقراطي" يبدو أن أفتاتي هنا لا يتجاوز إيهامنا بأن مطلب الملكية البرلمانية هو مطلب شعبي سيتحقق لامحالة بواسطة الإصلاح الجذري وهذا الفعل الإصلاحي هو الذي سيحسم في قضية الانتقال الديمقراطي ...
غريب أمر هذا القيادي ،متى كانت للحزب الإسلامي هذه الجرأة السياسية ؟ لا عهد لنا بمثل هذه الجرأة السياسية عند البيجيديين ، هي جرأة وهمية يغذيها التوجه الشعبوي للخطاب السياسي عند كل قياديي البيجيدي ، من هنا يمكنن أن نعتبر كلام أفتاتي مجرد إعلان عن فتح سوق الإسلام السياسي من جديد لمواجهة الكساد الذي أصابها لبيع الوهم والشعارات التي لا تعكس طبيعة الوعي السياسي في المجتمع المغربي ، الوعي لا زال غائبا ومغيبا ولا يمكن أن يرقى في هذه الظروف إلى درجة المطالبة بالملكية البرلمانية ، وهكذا يبدو أفتاتي مهووسا بالوعي المغيب فلا يجد أي حرج في أن يقوم بقراءة غيبية للمستقبل ،فيبدو وكأنه امتطى صهوة البراق ( الحصان المجنح ) ليبحث عن اساس لثورة يعيشها في ذهنه فقط .
في المسار الثاني قرأ واقع الهزيمة فقال: "فاشية انقلابية نهج البنية العميقة والموازية، المتحالفة مع الكمبرادورات و الرأسمال الكبير الريعي الفاسد لبضع عائلات....."
المسار يعبر عن عمق الأزمة النفسية التي نتجت عن النكسة ، أزمة فاقت ما خلفته فينا نكسة 1967 ، لكن أفتاتي لا يستطيع مواجهة الحقيقة ،يريد أن يخفي رأسه في الرمال والبحث عن مبررات للهزيمة متحاشيا أن يقدم نقدا ذاتيا . لا يقول أفتاتي إن حزبه انهزم وإنما يؤكد على أنه تعرض لانقلاب قامت به الفاشية فمن تكون هذه الفاشية ؟ يرى أفتاتي أن الإنقلابيين الفاشيين الذين أفرزتهم البنية العميقة المتوارية خلف النظام المتحالفة مع الإقطاع أو الكمبرادور والرأسمال الريعي الذي تهيمن عليه بعض العائلات هم من تكالبوا على حزبه فأسقطوه... غريب منذ متى وهذه الفاشية تتحكم فينا ؟ و أين كان أفتاتي وإخوانه طيلة العشر سنوات الماضية ؟ لماذا لم يفضحوا الفاشية ؟ لماذا تركوها تستغول لتقضي على الحزب ؟ أخيرا لماذا يهتم بالفاشية ولم ينتقد إخوانه لما كانوا ولازالوا يستفيدون الريع ؟ هل اكتشف أفتاتي مصطلحي الفاشية والكمبرادور مؤخرا وبرر من خلالهما فشل حزبه ؟
المسار الثالث الذي اعتمده أفتاتي هو الأغرب والأخطر ، إنه يلخص رؤيته للحاضر والمستقبل ، وتبدو قاتمة مظلمة تتقاطع مع النبوءة في الإنذار بنهاية الحياة . لا يتنبأ أفتاتي بقيام الساعة وإنما يتنبأ بثورة عارمة ذات أجندات ومآلات واحتمالات غير مضمونة "في انتظار الذي يأتي و لا يأتي".
إن التأثر بالمرجعية الدينية واضح في المسار الثالث ،لأن أفتاتي يسير على نفس منهج رجال الدين باعتماده على التخويف والترهيب ، لا يخوفنا من عذاب ما بعد الموت وإنما يرهبنا باندلاع ثورة عارمة " لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر "
في بضعة أسطر قدم أفتاتي بيان يقترب في مبناه من " الوصايا العشر " إلا أنه اقتصر على ثلاثة فقط قيم فيها الحاضر وتنبأ بالمستقبل الذي أراده مظلما ،لكن لماذا سيظلم المستقبل ؟ بكل بساطة لأن البيجيدي انهزم في الانتخابات ،طبعا لا أريد أن أناقش الأسباب الظاهرة والخفية لهذا الانهزام وإنما أود أن ألفت الانتباه أولا إلى أن هذا التصور السياسي الخطير الذي يحمله أفتاتي يتقاطع مع بروتوكولات التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ،وإن حاول أن يخفي هذا التقاطع بل حاول ألا يفضح كل أوراقه السياسية وتوجهاته الإديولوجية القائمة على النسق الشعبوي البئيس ،وقد وجد طالته في اللغة حيث توارى وراء معجم لغوي يتميز بخصوصياته الدقيقة ، لهذا سنهتم بمعجم التدوينة لنكشف عن تناقضات صاحب التدوينة.
إن المعجم الذي استعمله أفتاتي في تدوينته لا علاقة له بالمرجعية الدينية لحزبه لذا يمكن أن نقول إن أفتاتي حقق انزياحا ، خرج عن المألوف على مستوى استعمالاته اللغوية حيث مال إلى لغة تنتمي إلى المعجم اللغوي الحداثي ذي الخلفية الاجتماعية والسياسية الثورية بل يمكن أن نلمس في لغته ملامح القاموس الماركسي الثوري ، فبدا وكأنه وضع جانبا العمامة بكل خلفيتها الإخوانية السلفية وحمل المطرقة و المنجل ، غريب أمر هذا القيادي ،هل نحن أمام خطاب ديني جديد يمتح من المرجعية الثورية في بعدها الماركسي ؟ هل نحن نشهد بداية ظهور الإسلام اليساري الثوري ؟ أم كل ما قاله أفتاتي هو مجرد خطاب شعبوي مضلل ؟
تعكس تدوينة أفتاتي أزمة الخطاب السياسي بالمغرب ،خطاب أصبح بدون رائحة تميزه ،بدون هوية ولا مرجعية ، كل الأحزاب أصبحت تلعب لعة الأرجوحة من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين ،فإذا لم تجد بعض طوائف اليسار أي حرج في استعمال أدوات الفكر السلفي في حملتها الانتخابية لا يجب أن نستغرب حينما يلبس الإسلام السياسي لبوس الخطاب الثوري الراديكالي.
أراد أن يظهر القيادي الإسلامي ثوريا أكثر من غيفارا نفسه ،بل أراد أن يكون ثوريا أكثر من الثورة نفسها وفي هذه الخطوة غير المحسوبة أفصح أفتاتي عن تشبعه ببراغماتية ميكانيكية هجينة تستغبي الشعب .
لقد أدرك أفتاتي أنه لن يلفت انتباه أي أحد إذا التزم بتوظيف المعجم الديني المعتاد أو إذا تحدث مرة أخرى عن التماسيح والعفاريت ، لهذا اتجه نحو معجم يتناقض مع مرجعيته الإديولوجية، وظن أنه بواسطة اللغة سيتمكن من قراءة الواقع بطريقة مختلفة ،تبتعد عن التفسير الغيبي وتقترب من مفهوم الصراع الطبقي بين قوى تملك وسائل الإنتاج وأخرى لا تملك إلا جهدها الجسدي ، مع العلم أن الإديولوجيا الإخوانية السلفية لا تؤمن بالصراع الطبقي والاستغلال الاجتماعي ، غير أن أفتاتي يشذ عن القاعدة الربانية ويشر في تدوينته إلى ذلك الصراع بين الطبقة الإقطاعية والطبقات الكادحة ويرجح على أنه هو الصراع الحقيقي في المغرب تدعمه الفاشية المدعومة بالكمبرادوريات ، هذا التحول الإديولوجي الذي فرضه منطق الهزيمة عليه سيدفعه إلى ترجيح الخيار الثوري كحل وحيد وأوحد وإن كانت نتائجه غير مضمونة .
الماركسية تحليل ملموس لواقع ملموس بينما الأفتاتية تعبر عن أزمة جهل بالمادية الجدلية ،والميكانيزمات المتحكمة في التغيير ، أفتاتي يرى أن التغيير يكون بالإصلاح الذي يفضي إلى الثورة التي لا يمكن أن نعرف مآلاتها ،بينما الماركسية تربط التغيير بالتناقض الموجود بين البرجوازية والبروليتاريا ،كلما ارتفعت درجة الوعي اشتد الصراع الذي سينتهي بانتصار البروليتاريا ،إنها الحتمية التاريخية. الماركسية مقتنعة بانتصار البروليتاريا والتغيير حتمية تاريخية لا تنتجه دعوات إصلاحية يقودها حزب إسلامي و لا علاقة له بالإرادة الإلهية ألم يقل ماركس " الدين أفيون الشعوب "....
إن تدوينة أفتاتي لا تعدو أن تكون قراءة فاشلة لانتكاسة البيجيدي ،وقراءة شعبوية للحاضر و المستقبل وهي تعبر عن انهزامية وانتهازية هروبا من النقد الذاتي.
فهل نحن مع افتاتي بالصيغة الماركسية الثورية ؟ أم نحن أمام قيادي يبحث عن موقع جديد في الخريطة السياسية ؟ أم نحن أمام مجرد خطاب مضلل ؟