أبو وائل الريفي: الهزائم الثلاث لحزب العدالة والتنمية وتصويت المغاربة الانتقامي

أبو وائل الريفي: الهزائم الثلاث لحزب العدالة والتنمية وتصويت المغاربة الانتقامي قياديو حزب البيجيدي المهزوم (بسيمة الحقاوي تتوسط سعد الدين العثماني (يمينا) وسليمان العمراني)

هل خرجت النتائج المعلنة عن المنطق؟ هل كانت مفاجئة أم صادمة أم عادية؟ وهل يمكن القول إن كل هذه النعوت صحيحة ولكنها فقط تختلف من فئة إلى أخرى؟

 

لقد كانت هزيمة العدالة والتنمية متوقعة، ولكن طبيعة هذه الهزيمة ودرجتها هي المفاجئة. كانت الهزيمة عادية بالنسبة للمغاربة، ولكنها بالمقابل كانت صاعقة وصادمة لأنصار العدالة والتنمية لأنهم كانوا مخدرين بوهم أنهم وحدهم الموجودين في الساحة والباقي مجرد دكاكين انتخابية وأنه وحدهم “مضوين البلاد” وقد كان ربما ضروريا أن يستفيقوا على وقع انقطاع وهج مصباحهم ليروا أن البلاد مضوية بهم أو بدونهم لأن لها رجالاتها ونساؤها الساهرين على دوامها.

 

هزيمة العدالة والتنمية كانت منطقية لأن التجارب الانتخابية المغربية تثبت أن أقصى ما يفوز به كل حزب، في عز قوته، هو ولايتين متتاليتين لأن السلوك الانتخابي للمغاربة يحب التغيير بعد إعطاء الفرصة “للحزب الكبير” مرتين، وقد حصل هذا سابقا مع الاتحاد الاشتراكي في تجربتي 1997 و2002 وكانت هزيمته في 2007. على هذا المستوى، لا يمكن القول إلا أن المنطق ساد بشكل كبير.

 

تتمثل المفاجأة إذن في حجم الهزيمة التي مني بها حزب العدالة والتنمية. والحقيقة أن هذه رسالة للحزب وقادته وقواعده وجمهور الباحثين لإعادة النظر في أدوات تحليلهم والاقتراب أكثر من المغاربة لفهم طريقة تفكيرهم وتفاعلهم وردود أفعالهم. لا يمكن تسمية ما حصل يوم الأربعاء تصويتا عقابيا فقط لأنه تجاوز ذلك إلى التصويت الانتقامي ضد العدالة والتنمية الذي باع الوهم للمغاربة وسوق الوعود الكبيرة ولم يحقق منها شيئا بل أجهز على بعض مكتسباتهم التي لم ينتخبه المغاربة على أساسها وأهمها طريقة إصلاح نظام التقاعد وصندوق المقاصة والعمل بنظام التعاقد. للأسف، لم يف العدالة والتنمية بوعوده للفئات التي صوتت لصالحه، بل كانت هذه الفئات أول المستهدفين سلبا بقراراته. وافتقد الحزب لنجاعة التدبير والحلول الإبداعية للملفات الحارقة واكتفى بالحلول التي كان من ضحاياها الطبقة الوسطى والفقيرة أساسا. ولذلك يصدق عليه القول بأنه الحزب الذي خدم مصالح من لم يصوت عليه وخذل الفئات التي صوتت لصالحه.

 

أشرت هذه الانتخابات ونتائجها على نهاية مرحلة وسياق وخطاب. انتهى سياق ومرحلة ما سمي بـ ”الربيع العربي” وما ترتب عنه من أولوية الحفاظ على الاستقرار وكيان الدولة والتصويت على أساس سياسوي للتيارات غير المجربة من قبل أو التي كانت تقدم نفسها ضحية المرحلة السابقة، وكان لجائحة كورونا نصيب وافر في ذلك لأنها كانت إيذانا بالدخول في سياق ومرحلة جديدين بأولويات مخالفة تحتل فيها الصدارة القضايا التنموية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما فشلت فيه العدالة والتنمية بامتياز. نحن على أبواب لحظة إفلاس الخطاب الطهراني والأخلاقوي إن كان يوظف فقط كستار لحجب الفشل التدبيري وتبرير غياب النجاعة، وقد عبر المغاربة عن الحاجة إلى قوة تدبيرية وأفكار ناجعة تحقق العدالة الاجتماعية والمجالية وتسد الفوارق وتقلص العزلة التي تعاني منها مناطق كثيرة. لم يعد في المؤسسات مكانا لمن يقتصر على التوصيف ولعن الفساد دون أن يقدم وصفة ويتخذ خطوات للقضاء عليه لأن المغاربة انتخبوا ممثليهم لتقديم حلول وليس لعن الظلام فقط.

 

تتعدد أسباب هزيمة العدالة والتنمية وتتشعب، والمغاربة عاقبوه دون غيره من مكونات الائتلاف الحكومي وفي هذا درس بليغ للحزب وقادته. عاقب المغاربة العدالة والتنمية لعدم وفائه بوعوده ولفشله في القطاعات التي دبرها ولمحدودية قدراته التدبيرية ولخطابه المبخس لانتظارات المغاربة، وبالمقابل كافأ بعض مكونات الائتلاف الحكومي التي نجحت، بنسبة من النسب أو لنقل لم تفشل على الأقل، في تدبير القطاعات التي دبرتها. وفي هذا التصويت الانتقائي بهذه الطريقة مؤشر على منسوب الذكاء لدى المغاربة وقدرتهم على التمييز بين الأحزاب وقدراتها. يجب مستقبلا الانتباه إلى أن زمن الاختباء وراء الحكومة الائتلافية لتبرير الفشل قد ولى إلى غير رجعة، وما حدث من مكافأة البعض ومعاقبة البعض الآخر فرصة للأحزاب لتتذكر تجربة الاتحاد الاشتراكي الذي دفع حينها وحده نتيجة تدبيره لولايتين وكافأ بالمقابل حليفه الحكومي حزب الاستقلال سنة 2007 بتبويئه الصدارة. لاحظوا أنه نفس المنطق وأن التاريخ يعيد نفسه وأن لا شيء غير عادي حدث مع العدالة والتنمية، وسيرتكب العدالة والتنمية خطأ آخر إن هو تمادى في تقمص دور الضحية والمستهدف لأنه يستعدي حينها المغاربة ويستبلدهم وهو ما يزيد من عزلته مجتمعيا.

 

دق المغاربة ناقوس الخطر للعدالة والتنمية في مناسبات سابقة، تمثلت في أكثر من انتخابات جزئية وفي انتخابات ممثلي المأجورين وفي انتخابات الغرف المهنية ولكن الحزب للأسف لم يتلق الرسالة المشفرة لأنه لم يحسن قراءة ما بين وما وراء سطورها وكان بحاجة إلى رجة قوية تعيده إلى حقيقته ووزنه الطبيعي الذي تناساه بنشوة الدوباج الانتخابي الناتج عن حالة العزوف التي شابت الانتخابات السابقة. وكم نتمنى أن تكون هذه فرصة للحزب لمراجعة خياراته وخطابه ومنهجية تدبيره وتفعيل الحوار الداخلي الذي بدأه ولم يكمله ولم يُفعل ما ترتب عن بعض جولاته.

 

لكل ما سبق، لم تكن هزيمة العدالة والتنمية مفاجئة لأسباب موضوعية كانت واضحة لكل متابع، ولكن المفاجئ كان هو حجم هذه الهزيمة والتي كان سببها الأساسي عوامل ذاتية كثيرة.

 

يتمثل السبب الأول في فقدان العدالة والتنمية الحاضنة المجتمعية الدعوية التي شكلت ذراعه الانتخابي الذي يشتغل ميدانيا بخطاب دعوي وأخلاقي وبطريقة القرب والديمومة مع جمهور من المغاربة، وخاصة المحافظين. في هذه الانتخابات كان واضحا فتور كبير في تعاطي حركة التوحيد والإصلاح مع الانتخابات ومع الدعاية للعدالة والتنمية لدرجة لم تصدر الحركة بلاغا رسميا يدعو لمساندة الحزب والتصويت لمرشحيه. هنا يلزم التفكير جيدا في عنصر القوة هذا الذي بني عليه الحزب والذي يبدو غريبا عن العمل الحزبي كما هو متعارف عليه عالميا، وقد كان الحزب أول المكتوين بناره، فقد كانت قواعد الحركة عازفة عن التعبئة للحزب ولم يكن “عندهم وجه” لملاقاة المغرب في الشارع والدفاع عن حصيلة الحزب التي كانت كارثية في الموضوعات الدعوية والدينية التي ظلت الحركة تضعها ضمن أولويات ومجالات عملها واهتمامها. يمكن، برصد بسيط لخطاب الحركة خلال الحملة الانتخابية، ملاحظة أنها كانت تركز على رهان المشاركة ودعوة الناس للمشاركة أكثر من الدعوة للعدالة والتنمية. وحتى في هذا الرهان فشلت الحركة والحزب معا في جر المغاربة للمشاركة في الانتخابات ودليل ذلك هو نسبة المشاركة في المدن والدوائر التي تعتبر قلاعا لهما مثل المدن الكبرى التي شهدت نسبة مشاركة ضعيفة مقارنة مع غيرها. على هذا المستوى، نستطيع الجزم بأن العدالة والتنمية لم يشكل قيمة مضافة في المشهد الانتخابي المغربي لأنه استفاد منه أكثر مما أفاده.

 

ويتمثل السبب الذاتي الثاني في فقدان الحزب لمصداقيته بتناقض خطابه والتنكر لوعوده، وقد شكل ذلك صدمة للمغاربة الذين لم يتوقعوا هذا التنكر ظنا منهم أن الخلفية الدينية والأخلاقية عاصم للفاعل السياسي من الزلل، ولكن سرعان ما اتضح أن حسابات السياسة مخالفة لحسابات الدعوة ومنطق السياسة مختلف كثيرا عن منطق الدعوة. ويكفي في هذا الباب رصد حالة التناقض التي طبعت ممارسة الحزب في قضايا التطبيع و”مشروع قانون الكيف” وقانون الإطار حول التعليم وقضية الفرنسة والتعريب. فلا يمكن للمواطن العادي الثقة في من تنكر لخطابه ووعوده ومبادئه. وإذا أضفنا إلى ذلك الانتقائية السياسية لقادته وتوظيف نفس الوقائع بشكل متناقض حسب كل سياق على حدة فإن النتيجة الحتمية ستكون عقابا جماعيا للحزب وقادته، وخير مثال على ذلك موقف الحزب وبنكيران من أخنوش الذي كان “راجل مزيان وولد ناس ويمكن أن يكون قيمة مضافة بحكم أنه رجل أعمال” في البداية ولكن سرعان ما أصبح هو الخطر على المغرب ونجاحُه يعني قيام ثورة و20 فبراير جديدة. خطاب الابتزاز هذا يمجه المغاربة وخطاب المزايدة على البلاد وادعاء إنقاذها يكرهه المغاربة الذين يعرفون من هو حامي البلاد والساهر على دوامها ويعتبرون كل مزايدة بهذا الأمر لعب بالنار ومقامرة خاسرة. للأسف، لم يستفد العدالة والتنمية وقادته من هذا الدرس مبكرا وكان لزاما التعرض لهذه الصدمة ليمكن لهم ربما الاستيقاظ من هذا الوهم. للمغرب حماته من جنود الخفاء الذين لا يحبون الظهور والتقاط الصور ولا ينتشون بحجم المشاهدات في اللايفات والجيمات على مواقع التواصل الاجتماعي وهم فريق متكامل يشتغل إلى جانب الملك الحامي والساهر والضامن لوحدة البلاد ومصالح المغاربة.

 

ويتمثل السبب الذاتي الثالث في حالة الانقسام والتشتت غير المسبوقة التي خاض بها الحزب هذه الانتخابات. لا يمكن التغاضي عن نسبة الرحل من الحزب لأحزاب أخرى، ولا يمكن إنكار حالة العزوف التي طبعت سلوك مرشحين باسم الحزب من أبنائه عن خوض الحملة الانتخابية حيث شوهد مرشحون عازفون عن التعبئة للحزب واكتفوا بوضع صورهم في لائحة المرشحين وكأن الأمر لا يعدو امتثالا لقرار حزبي بحكم الطابع الانضباطي الذي ما زال يحكم بعض القيادات الوفية للحزب، كما لا يمكن إنكار تردد عدد من القيادات في دعوة المغاربة للتصويت للحزب بما فيهم بنكيران الذي كان لافتا دعوته المغاربة التصويت على الحزب الذي يرونه الأصلح دون تسمية العدالة والتنمية كما هي عادته. كما كان لافتا تواري بعض رموز الحزب ومؤسسيه إلى الوراء مثل المصطفى الرميد كتعبير عن حالة عدم رضى عن طريقة تدبير ملف الانتخابات ويتضح اليوم أن هذا الخيار كان من شأنه امتصاص هذه الصدمة والتخفيف من وقعها على قواعد الحزب أساسا. والخطير هو الطريقة التي حاول بها الحزب استدراك هذا الفتور حيث لجأ إلى خدمات بعض من جمدوا عضويتهم من الحزب مثل المقرئ أبو زيد وقد كان لذلك وقع الصدمة على أعضاء الحزب قبل المغاربة. كيف لمن قال في الحزب ما لم يقله مالك في الخمر وجمد عضويته داخل مؤسساته أن يترشح في آخر لحظة باسمه هاربا من الترشح في الدائرة التي اعتاد النجاح فيها؟ أهذا هو الحزب الذي كان يتحدث عن تخليق السياسة؟

وجدير بالذكر أن تغيير الدائرة الانتخابية كان أقرب إلى الحالة العادية في ترشيحات الحزب، وقد كان لذلك وقع نفسي سلبي على المغاربة الذين فهموا منه تهرب منتخبي الحزب من المسؤولية والخضوع للمحاسبة فكان التصويت الانتقامي عاما عوض أن يقتصر على دوائر بعينها. هرب العثماني من المحمدية للترشح في الرباط فكانت الانتكاسة، وهرب العمراني من الرباط ليترشح في تمارة وهرب العماري من الحي المحمدي وهرب المقرئ من الجديدة وهرب الشوباني… هذه بعض من نماذج الاعتراف بالفشل والخوف من ساعة الحساب، رغم أن قائمة الهاربين طويلة.

 

الخلاصة إذن أن هزيمة العدالة والتنمية كانت مبكرة والحزب هزم نفسه بنفسه قبل أن يهزمه حزب آخر. أما المغاربة فلم يهزموه فقط ولكنهم عاقبوه وانتقموا منه وقدموه مثالا لغيره من الأحزاب مستقبلا كما فعلوا مع غيره سابقا. وهنا كذلك احترم المنطق الجاري به العمل في الانتخابات المغربية، ونتذكر جميعا مصير الاتحاد الاشتراكي بعد 2007 حيث لم يعد من أحزاب الكوكبة الأولى الأربعة. ولا داعي أن يشكك العدالة والتنمية مرة أخرى في النتائج ولن ينفعه خطاب المظلومية.

 

لم تقتصر هزيمة العدالة والتنمية على الخسارة الانتخابية فهذه من مقتضيات الديمقراطية وما وضعت الانتخابات إلا لذلك لأنها محطة محاسبة تكافئ البعض وتعاقب البعض الآخر، ولكن الصدمة كانت في الهزيمة الرمزية التي تمثلت في تهاوي القلاع الانتخابية للحزب بشكل صاعق ويمكن في هذا الصدد مقارنة نتائج الحزب بين 2016 و2021 في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وطنجة ومكناس ومراكش. هل يمكن للحزب تقديم تفسير موضوعي لنسبة التناقص التي حصلت في عدد المصوتين له؟ وتمثلت كذلك في سقوط قادة الصف الأول من الحزب مثل العثماني والخلفي وبسيمة الحقاوي وغيرهم.

 

ويضاف إلى الهزيمة الرمزية هزيمة سياسية تعني نهاية خطاب الحزب الذي لم يتخلص من جذوره الدعوية ليمارس السياسة بما تقتضيه من خطاب وتعايش ونسبية، وتعني نهاية اختيارات الحزب التي لم تتخلص بعد من مرجعيته الأخلاقية لفائدة النجاعة التدبيرية.

للأسف، لم يستطع الحزب، بعد أزيد من أربعة عقود من الوجود في المؤسسات، تكوين عدد كاف من أطر الدولة التي تفكر بمنطق الدولة ومصالح الدولة بعيدا عن الانتصار لمنطق العشيرة ومصلحة الجماعة، وطبع سلوكه التردد في كل الملفات الحاسمة حتى كان هو رمز البلوكاج الحكومي رغم أنه الحزب القائد للحكومة، والسبب أنه كان حزبا قلبه مع المعارضة ومصالحه مع الحكومة. وقد حان الوقت للقطع مع هذه الازدواجية. ويكفي مثالا على ضعف أطر الحزب أنها أقامت الدنيا ولم تقعدها ضد القاسم الانتخابي وكأنه المستهدف منه ولكن النتائج بينت أنه كان أكبر مستفيد منه، ولولا القاسم الانتخابي لما حصل الحزب على 13 مقعدا ولما أنقذ ماء الوجه في بعض معاقله الانتخابية التي كانت أحزاب أخرى أكبر متضرر من هذا القاسم الانتخابي.

 

حجم الهزيمة التي مني بها الحزب تتطلب أساسا مراجعة منهجية تدبير الحزب واختياراته وأطروحته وخطابه وطريقة تدبير علاقاته ونظرته لباقي شركائه في الوطن. هذا هو المؤشر على أنه استفاد من الدرس جيدا. وليس عيبا أن يبرز الحزب التناقضات التي تنخره ومن تمام الوضوح أن يبرز أن تدبيره تتقاطعه تيارات ممكن أن تمأسس وجودها إن هي أرادت تفادي تصدع الحزب وانشقاقه. وحتى إن حصل ذلك فهو طبيعي وتحصيل حاصل. وقد حدث لحزب القوات الشعبية أثر من ذلك بعد تجربتين حكوميتين.

 

(المصدر: موقع "شوف تيفي")