نور الدين الطويليع: لا أريد أن أعود

نور الدين الطويليع: لا أريد أن أعود نور الدين الطويليع
لا أريد أن أعود إلى الحياة الدنيا، وإلى جحيمها، من أخرجني من الجنة؟، أنا لم أقْرَبِ الشجرة، ولم أعبأ بوساوس الشيطان، فلماذا طُردتُ؟ ، ومن أعادني إلى العالم الذي ظننت انني ودعته دون رجعة؟
هكذا صرخت وصرخت في صباح يومٍ، قيل لي في ما بعد: إنه الثامن من شتنبر، بعدما بعثتني من مرقدي أشعة شمس حارقة في كهف لا أدري كم مكثت فيه، سيقولون أسبوعا، وسيقولون أسبوعين، رجما بالغيب، وسيقولون أسبوعا وبضعة أيام.
فركت عيني، وأجريت مسحا بصريا للمكان، كهف مهجور، تحيط به أرض قيعان، ركضت في كل الاتجاهات بحثا عن الفردوس المفقود الذي لم أشك لحظة واحدة أنه الجنة بكل مؤثثاتها.
فجأة، وأنا مسدر في تساؤلاتي، تلقت قفاي صفعة قوية، وقبل أن ألتفت لأظفر برؤية الفاعل، تلقيت أمرا صارما بمغادرة المكان: لقد نمت طويلا، تركناك تغط في نومك العميق منذ الخامس والعشرين من أغسطس، وقد آن الأوان لتستيقظ.
-- ماذا تقول؟؟؟، هل كنت نائما؟؟؟، لا لا لا، لا أصدق، أنا كنت في الجنة، في الطابق العلوي المسمى الفردوس
-- يبدو أن النوم الثقيل والعميق أصابك بالهلوسة.
بلهجة ساخرة تابع صاحب الصفعة كلامه قائلا: ستكون ثاني إنسان يُخرَجُ من الجنة بعد آدم عليه السلام، انتظر حتى تقام لجنابك طقوس الخروج، بعد لحظات ستسجد لك الملائكة، وسيكون الشيطان هذه المرة لك من الساجدين.
-- لا تسخر مني، فأنا من أهل الجنة، وإن خالطك الشك، فاستمع لحكايتي، وستعرف الحقيقة.
-- تفضل يا صاحب الجنة، احك لنا قصتك. 
  -- سأحكي لك عن النعيم المقيم الذي ما سمعته أذن، ولا رأته عين، ولا خطر على قلب بشر، وأنا أتفيأ 
في ظلال الجنة رأيت النخل باسقات، وأشجار التفاح والتين والزيتون والرمان، تجري من تحتها الأنهار، ووديانا من خمر ولبن وعسل مصفى، ووردت عيونا سلسبيلا ما رأيت أعذب منها ولا أنقى، وصادفت ولدانا يطوفون بأكواب وأباريق، ورأيت الحور العين يضعن على رؤوسهن قبعات الوقار، وكنت كلما اشتهيت الأكل جاء طبق من حمام مشوي، وآخر من سمك، وثالث من لحم الغزال، ورابع من دروة الجمل، وخامس من دجاج محمر...
كان المكان مضاء بالليل والنهار، ومن شدة إضاءته لم أعد أميز بين طرفي اليوم، كانت المصابيح مبثوثة في كل مكان، وقد اجتمعت الشمس والقمر في صعيد واحد، وكنت إذا استلقيت تنثال علي الورود لتنعش حاسة شمي بروائحها القوية.
رأيت المستشفيات الكبيرة المجهزة بمعدات لم أرها، ولم أسمع عنها من قبل، رأيت الجامعات العظيمة، والحدائق الغناء، والطرق المعبدة بالذهب والفضة، والمطارات التي تعج بطائرات مزودة بأنظمة حديثة لم تصل إليها الإنسانية بعدُ، والموازين المنصوبة في كل مكان، إذا صعدت فوقها شعرت بدبيب السعادة يجتاحك اجتياحا، وتصفحت كتبا موشاة بجمال الخط والصورة، تمارس عليك غواية قراءتها بلا عطف أو شفقة، وتمليت بمنظر بشموع ذات لهب.
-- كفى كفى، أما آن لهذا الهذيان أن ينتهي؟
-- لا، والله، لست أهذي، وإنما أحكي عن حياتي في الجنة.
-- اسمع جيدا، إنك لم تبرح هذا الكهف منذ انطلاق الحملة الانتخابية التي مارست عليك جذبا جعلك تعيش أطوارها في نومك العميق، وهذا تفصيل رؤياك: ما رأيته هي وعود انتخابية قدمتها أحزاب تحمل رموزا تشابه عليك بقرها، وحوَّلَتْهُ استيهاماتك إلى واقع.
-- أرجوك، أين أنا الآن؟
-- أنت في المغرب الأقصى، تمارس طقوس الحياة الدنيا.
-- هل يمكنني أن أعود إلى جنتي؟
-- يمكنك أن تعود، ولكن بعد خمس سنوات، وستمكث فيها مثل ما مكثت الآن، فعد إلى رشدك، وانس جنتك وحديثها وسندسا وإستبرقها.
تركت الرجل، وتابعت ركضي، وأنا أصيح: لا أريد أن أعود، لا أريد أن أعود.