عبد الإلاه حبيبي: المدينة الفاضلة أو الحلم المثالي لبعض الفلاسفة والمصلحين

عبد الإلاه حبيبي: المدينة الفاضلة أو الحلم المثالي لبعض الفلاسفة والمصلحين عبد الإلاه حبيبي

منذ جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة للفارابي، والفلاسفة يحاولون تخليق السياسة وزرع الحكمة في قلب السلطة، قاصدين جعل السعادة هي الهدف الاسمي من حكم البشر، والعدل الوسيلة الأخلاقية لتحقيق هذا الحلم الأعلى...

 

لكن على الأرض هناك مدن أخرى، شرائع أخرى، قيم مختلفة جذريا عن تلك التي حلم بها الفلاسفة وأتى بها الأنبياء وكرسها المصلحون وبعض الزعماء... على الأرض يوجد الإنسان الذي تحركه غرائز البقاء والتملك والسلطة والجاه و الشهرة والكسل... وفي السماء هناك نداء العمل والتضحية وفعل الخير والتعاون مع الآخرين وحفظ الحقوق عبر المساواة في المكاسب والفرص والشروط...

 

على الأرض هناك شركات ولوبيات، وأقمار صناعية، وأسلحة فتاكة، وإعلام متطور، وبرامج لضبط السلوك البشري، وتكييفه مع حاجيات الرأسمال وأهدافه... في السماء هناك الخير والفضيلة، والسلام واقتسام الثروات، والنهوض بأوضاع الفقراء، والمهمشين، وإصلاح شروط الحياة، ومنح الجميع فرص الترقي، والاستفادة من خيرات  الأرض بمختلف مواردها...

 

على الأرض هناك خطط ومشاريع للأقوياء، لمالكي وسائل القهر والجبروت، للاستفراد بخيرات الأرض ومنح الفتات لملايير من البشر الذي يعيش أسوأ الأحوال من أمراض وحروب وأزمات ومشاريع سياسية فاشلة...

 

في السماء هناك أحلام ومشاريع مثالية، وقصص تاريخية تحكي عن مصير الظالمين، والمتجبرين، وتصف الأهوال التي حلت بأقوام فسدوا، وأفسدوا وعاثوا في الأرض فسادا، وحكايات تهيب بالناس احترام الحق والانتصار له، والابتعاد عن الظلم والتصدي له، لكن على الأرض هناك خطابات وتقنيات لتكييف الناس مع الرذائل وتعويدهم على رؤية الأباطيل والصمت عنها، ومعايشة المظالم وغض الطرف عنها...

 

لهذا ليس كل ما في المساء قابل لان يتحقق بسرعة البرق على الأرض، ولعل هذا ما أدى إلى فشل الكثير من الدعوات والأحلام، والمواقف التي تكرس النظرة المثالية للسياسة والسياسيين، بل والحكم على أصحابها بالضمور والاختفاء من التدافع مع الناس والواقع الحي الذي تحركه الدوافع الطبيعية للبشر...

 

لن تكون السياسة أبدا أدبا نظيفا، أو فلسفة أخلاقية مهذبة، أو مشاريع حياتية مثالية، بل هي براكين، ورعود وحيل وتراكيب متناقضة تتطلب مجهودا ذهنيا لفهمها، وصبرا نفسانيا كبيرا لفك ألغازها دون لعنها أو شيطنة أصحابها... لأن السلطة ضرورية، والنظام ضروري، والقوانين ضرورية، ولعل من فهم هذه الأمور بعمق وكتب عنها بصدق هو "ماكايفيل" في كتابه الشهير "الأمير"...