المغرب-الجزائر..إقتصاد القطيعة والتأزيم

المغرب-الجزائر..إقتصاد القطيعة والتأزيم أحمد كلي بدي
يحكى في مرويات التراث أن أعرابيًا اشترى نصف بيت ليسكنه، وفي يوم من الأيام سمعوه يناجي نفسه قائلا: لقد عزمت على بيع نصف الدار الذي لي، لأشتري بثمنه النصف الآخر، حتى تصير الدار كلها لي!! وهكذا ينفق ما عنده لينال ما ليس عنده، وفي الغالب يخسر الاثنين.
قبل أيام، قطعت الجزائر من جانب واحد علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب، في خطوة صدمت الكثير من الطامحين لبناء اتحاد مغرب عربي يتماشى مع تطلعات الشعوب المغاربية.
ولكن صدمة هؤلاء لم يكن سببها قرار الجزائر قطع علاقات «دبلوماسية» لم تكن موجودة أصلا، وإنما لأن الجميع كان يترقب رد الجزائر على خطاب ألقاه الملك محمد السادس قبل شهر، بمناسبة عيد العرش، أعلن فيه أن الوقت قد حان لأن يعمل كل من المغرب والجزائر سويا «دون شروط مسبقة، من أجل بناء علاقات ثنائية، أساسها الثقة والحوار وحسن الجوار»، بل إن الملك فاجأ الجميع حين وصف البلدين بأنهما «توأمان حقيقيان».
تفاءلت شعوب المنطقة بالخطاب، وبدأ الحلم بنهاية صراع بين بلدين جارين، ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، وبالتالي مد جسور النماء بين بلدان المغرب العربي، وتجاوز عصر الصراعات الوهمية وضياع الوقت في حزازات لا طائل من ورائها، والتركيز على ما ينفع الناس ويبقى في الأرض.
ولكن مقص النظام الجزائري أصر على أن يكون الرد هو قطع الأمل في اليد المغربية الممدودة، وإجراء عملية جراحية غير محسوبة العواقب لفصل هذين التوأمين، فوقف رمطان لعمامره ليعلن قطع علاقات ميتة سريريا منذ أكثر من أربعة عقود، كان المغرب قبل أسابيع يدعو بلغة صريحة، بدا أنها صادقة، لبنائها من جديد.
إن ما قام به لعمامرة هو ذبح الذبيح وقطع المقطوع أصلا. إنه أبقى على محرك المنطقة في نقطة (Point Mort)، فلم يتحرك ومنع المنطقة من التحرك نحو الأمام.. وما نخشاه هو سيناريو العودة إلى الخلف، من طرف حكام ينظرون إلى الوراء أكثر مما يتطلعون للمستقبل!
لقد كان الرد على الدبلوماسية المغربية الواعية والمنحازة لمصالح الشعوب، قرارًا جزائريا مستمدا من عقلية الحرب الباردة، خاصة حين نمعن النظر في المبررات التي قدمها صناع القرار الجزائري، وهم يعلنون قطع العلاقات من جانب واحد، لقد كانت مبررات غريبة، وتنتمي إلى عصر آخر غير الذي نعيشه اليوم.
لقد حاول لعمامره أن يبرر قرار قطع العلاقات من خلال ربط المغرب بالحرائق البشعة والمؤسفة التي اجتاحت أخيرا غابات الجزائر، وقال إن المغرب يدعم منظمتين إرهابيتين كانتا وراء الحرائق، من السهل تسويق مؤامرة لإضرام الحرائق في الجزائر، من أجل شغل الشارع الجزائري بعدو وهمي، لإخفاء عدو الفساد المستشري وسوء التسيير المنتشر وغياب رؤية استراتيجية لتحقيق تطلعات ملايين الشباب العاطلين عن العمل والمتمسكين بالأمل.
من السهل أن تحاول حكومة الجزائر تعليق خيباتها على مشجب المغرب، ولكن كيف لها أن تفسر الحرائق التي اندلعت هذه الأيام في غابات إيطاليا واليونان وتركيا وروسيا وكندا والولايات المتحدة، هل المغرب هو من أشعلها ؟!!
لقد سخر الأتراك من نظام أردوغان حين حاول تسويق فكرة أن «مؤامرة سياسية» تقف خلف إضرام حرائق الغابات في تركيا، وذلك لإلصاقها بحزب العمال الكردستاني، متجاهلا تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة في الكوكب وعلاقتها المباشرة بحرائق تندلع سنويا في الولايات المتحدة وكندا ولم نسمع يوما أي نظريات ذات طابع سياسي لتفسيرها.
ترى من يقف خلف كل الكوارث «الطبيعية» التي تجتاح الكوكب هذه الأيام، من فيضانات وجفاف وحرائق ؟
لم يقدم لعمامره أي جواب.
بل إن كبير الدبلوماسية الجزائرية قدم مبررًا آخر لقرار قطع العلاقات، وأخرج ورقة «الأعمال العدائية» التي يقوم بها المغرب تجاه الجزائر، وربط المغرب بدعم حق تقرير مصير منطقة القبائل، وهو طبعا لم يقدم دليلًا على هذه التهم الكبيرة والخطيرة، والتي تتناقض مع قيم الدبلوماسية المغربية المعروفة برفضها لأي موقف يمس الوحدة الترابية لأي بلد في العالم، وهي البلد الذي اكتوى بنار التعدي على وحدة ترابه، والغريب هو أن انفصاليي المغرب مدعومون علنًا من طرف الجزائر، ولا يحتاج المغرب لأن يتهمها بذلك، فالجزائر نفسها تقر ولا تخفي، حين تقدم لهم المأوى والسلاح والمال.
المفارقة هي أن رمطان لعمامره حين كان وزيرا في حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقه، كان يقود خلية خاصة، ميزانيتها 750 مليون دولار من خزينة الدولة الجزائرية (عام 2013 وحده)، مهمتها الوحيدة هي تمويل حملات إعلامية «معادية» للمغرب، والعمل على «تحسين» صورة جبهة البوليساريو، الحركة الانفصالية المعادية للمغرب.
لم تكن هذه التمويلات سرًا، فقد تحدثت عنها الصحافة الجزائرية آنذاك، وأشارت إلى أن الجزائر مولت أنشطة إعلامية وسياسية وحقوقية للإضرار بصورة المغرب، من ضمنها مؤتمرات دولية في بعض العواصم الأوروبية، من أشهرها مؤتمر في العاصمة الإيطالية روما انعقد نهاية عام 2013.
بل إن الصحف الجزائرية تذهب إلى أبعد من ذلك حين تقدر الأموال التي استنزفها المسؤولون الجزائريون في أنشطتهم المعادية للمغرب بأكثر من 375 مليار دولار خلال أربعة عقود، جميعها مأخوذة من خزينة الدولة الجزائرية، وبالتالي فإن حرب جنرالات الجزائر على المغرب كانت تكلف الجزائريين يوميا 23 مليون دولار، أي ما يعادل سنويا 8,5 مليار دولار، وهو ما يمثل نسبة 4,7 في المائة من الناتج المحلي الخام للجزائر.
من الواضح أنها حرب مدرة للدخل، خاصة حين نعلم أن نسبة معتبرة من هذه التمويلات تذهب إلى جيوب أشخاص معروفين ، وبالتالي فإن المستفيدين من الحرب لا يريدون لها أن تنتهي، حتى ولو كانت على حساب مصالح الشعب الجزائري وشعوب أخرى شقيقة ومجاورة.
لذا فإنه من الطبيعي حين مد المغرب يد الصلح والأخوة نحو الجزائر، في خطاب حظي بتغطية إعلامية واسعة وأثار ارتياحا كبيرا في العالم، من الطبيعي أن ترتعد فرائص «تجار الحرب وسماسرة الرعب»، وأن تكون ردة الفعل بهذه الارتجالية، ولكن المفارقة هي استخدام تهمة «الأعمال العدائية» لإلصاقها بالمغرب من طرف من يستثمرون مليارات الدولارات سنويا لإلحاق الضرر بالمغرب، قد يقول أحدهم إن ما قام به حكام الجزائر هو تطبيق حرفي للمثل العربي: «ضربني وبكى.. سبقني واشتكى».
بكاء لا يتوقع له أن يُحدث أي صدى في شبه المنطقة ولا في العالم، لأن مبرراته ضعيفة وواهية، وحججه غير مقنعة، وأصبح من المكشوف أن هنالك من يتاجر بالتأزيم ويحقق من ورائه أرباحًا كبيرة، في أكبر عملية فساد عرفتها المنطقة.
حتى البرلمان الأوروبي أصبح يتذمر من هذا التأزيم الدائم، الذي يؤثر على مصالحه في منطقة حيوية واستراتيجية بالنسبة له، ونلمس ذلك في الكثير من تقاريره ونقاشاته، حتى أن النائب البرلماني الأوروبي إيهان كيشيوك، وجه العام الماضي سؤالا قويا وصريحا إلى الممثل السامي للاتحاد الأوروبي المكلف بالسياسة الخارجية والأمن، حول استمرار الأوروبيين في التغاضي عن تمويل الجزائر للأنشطة المعادية للمغرب، الذي وصفه بأنه حليف استراتيجي للأوروبيين.
يقول هذا النائب في سؤاله إن الجزائر تقدم تمويلات تقدر بمليارات الدولارات إلى جبهة البوليساريو، هذا عدا عن التسليح والتدريب، ولكنها في نفس الوقت تترك سكان مخيمات تيندوف في جحيم لا يمكن تحمله، يعيشون أوضاعا إنسانية صعبة، حتى تحولت هذه المخيمات إلى سجن كبير.
توصل النائب البرلماني الأوروبي إلى أن تمويلات الجزائر ليست دفاعا عن الشعب الصحراوي، ولا حبا فيه وإيمانا بقضيته، وإنما هي تمويل لحرب عدائية ضد المغرب، وبالتالي فهي استثمار في حرب لا يريد صناع القرار في الجزائر لها أن تنتهي.
لقد كان التساؤل الذي أثار الضجة في البرلمان الأوروبي، متزامنا مع مطالبة الجزائر للأوروبيين بزيادة مساعداتهم الإنسانية لصالح البوليساريو، وهي المساعدات التي يستحوذ عليها قادة البوليساريو بدعم من المسؤولين الجزائريين، فتهرب تحت رعاية من الدرك الجزائري دون أن تصل إلى سكان المخيمات، لتباع في الأسواق الجزائرية والموريتانية، وبعضها يتوجه نحو شمال مالي ومناطق تنشط فيها تنظيمات إرهابية خطيرة.
إن المنظومة التي تستحوذ على أموال الجزائريين ومساعدات الصحراويين، وتريد أن تصنع من المغرب وحشًا كاسرًا، باسم حرب وهمية لا يريدون لها أن تنتهي، هي نفس المنظومة التي أعلنت قطع العلاقات مع المغرب، علاقات دبلوماسية لا وجود لها أصلا، وإنما الموجود على الأرض هو علاقات بين الشعوب ستبقى حية صامدة، لا يمكن أن تقطع، يحميها تاريخ طويل من صلة الرحم والود.
أحمد كلي بدي/ كاتب موريتاني متخصص في الشؤون المغاربية
المصدر: إيلاف