نشيد المكي: محنة الفلسفة وبؤس تدريسها

نشيد المكي: محنة الفلسفة وبؤس تدريسها

الفلسفة رفيقة الإنسان الأزلية عبر مغامراته الكبرى على مر العصور، في رحلته الطويلة نحو المستقبل المجهول، وهي في ذلك بمثابة البوصلة التي تحفظه من التيه والضلال. بل هي العقل الناقد الذي يتسلح به الإنسان لمجابهة أهوال الطريق ونوازع الأشباح وعوارض المسار. بل هي الحرية التي تتجسد في الاختيار الديمقراطي، وفي السيادة التي تمنح الإنسان سلطة تقرير المصير بما يتطلبه من شجاعة في المواقف، وجرأة في الرأي، واستقلالية في التفكير، كل ذلك بمعزل عما تخطه الآلهة في كتاب الغيب، وعما يقرأه الدجالون في كتاب الطالع. من هنا تستمد الفلسفة عظمتها بلغة كارل ياسبرز، لكنها العظمة التي تشكل من جهة أخرى، مصدر خوف أزلي لدى أولئك الذي يتوجسون من لمعان العقل فوق الرؤوس، ويرعبهم بريق الحرية المنعكس على النواصي والجباه. إنهم أولئك المستبدون بالرأي أو بالسلطة، فهم الذين يكنون عداء مقيتا للفلسفة والفلاسفة؛ فما قتل سقراط، أو كاليلي، أو شارل برينو، أو إحراق كتب ابن رشد وسواه، سواء كان ذلك القتل بالسم أو بالنار، بالحبل أو الحديد إلا خوفا من ذيوع أفكارهم التي تؤثر في الناس وتمنحهم قوة في العقل، وجرأة في التعبير، وتنويرا في التفكير، وبذلك يعمل التسلط السياسي والاستبداد الفكري على قتل الفلسفة حتى تبقى العقول مكبلة بالأوهام، مغلولة بظلام الدجل ومقيد بأصفاد الخرافة والأسطورة.

وتاريخ الفلسفة يعلمنا أن موت الفلسفة هو إحياء لها، فهي كطائر الفينق الذي ينبعث من رماده. ولذلك فما قتل الفلاسفة بموت للفلسفة، وإنما النصوص العظيمة تنبعث من محارقها لتينع من جديد بين ثنايا عصور الظلمة والظلام لتؤكد أنها محايثة ومحاينة لنا، وأنها لجديرة برفقتنا في صيرورتنا الوجودية تحدد لنا أهدافنا وتنير لنا الطريق إلى تحقيق أحلامنا.
وقد كان تعيين عز الدين العراقي وزيرا للتعليم سنة 1979 كما لو أنه إيذان بانطفاء الشموع وإعلان عن بداية مراسيم لذبح الفلسفة في محراب الجامعة المغربية تمهيدا لتقديمها قربانا لنظام سياسي أضحى بعد إضرابات 79 وأحداث 81 يبغض الفلسفة حتى النخاع، ويعلن عن كراهيته لكل ما يتولد عنا من شحنات فكرية أو أفكار حداثية. وفي الحال، زف بدلها بعروس أثخن جسدها وشما، عروس جملت بأوفر الحلي، وطليت بأغلى مساحيق التجميل، فما وفر لها كل ذلك هوية، ولا منح لها نسبا. وبعد البسملة والحوقلة، والتهليل والتكبير، أعلن لها عن اسم "الدراسات الإسلامية" التي ستنتشر (ببركة الرحمان ) لتملأ مختلف مدرجات الجامعات المغربية، وبالمقابل، سيعاني تدريس الفلسفة من كل أصناف التضييق وعوامل التهميش؛ وقد ضرب حولها حصار في التسجيل، وهو الحصار الذي سيمتد أثره لأكثر من عقدين من الزمن، وذلك ما سيفتح المجال فسيحا أمام سيادة الفكر الظلامي الذي أمسى يهددنا جميعا بفساد الأوطان وخراب العمران.
ومع توقيع المغرب سنة 1995 على تصريح باريس حول ضرورة تنمية وتطوير تدريس الفلسفة دعما لدورها في ترسيخ الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، وهو ما يمهد الطريق أمام المغرب لينخرط في الاستراتيجية التي اعتمدتها اليونسكو سنة 2004 وتقوم على محاور ثلاث؛ الفلسفة في بعدها الكوني، تدريس الفلسفة في العالم، ثم تشجيع الفكر والبحث الفلسفي، وسيتوج كل هذا بنجاح المبادرة التي تقدمت بها من المغرب جمعية أصدقاء الفلسفة التي نجحت في تحديد يوم عالمي احتفاء بالفلسفة تمت المصادقة عليه بالإجماع من طرف المؤتمر العام لليونسكو في أكتوبر 2005 ، وإقرارا بذلك، نظم أول احتفاء عالمي بالفلسفة في مدينة الرباط أيام 15 و 16 و 17 و 18 من نونبر 2006 ، اختتم بإعلان الرباط المشهور، الذي أكد على ضرورة تعميم تدريس الفلسفة، والارتقاء بتعليمها تعزيزا لحرية التفكير، والفكر النقدي، والغنى الثقافي لصالح الديمقراطية.
وفي كل ذلك، كانت وزارة التربية الوطنية حاضرة كقطاع معني بالموضوع، حاضرة بفعالية في قلب هذه المحطات انسجاما مع ما سطر من مشاريع كبرى لبداية مرحلة الانتقال الديمقراطي التي دشنها المغرب مع مطلع الألفية الثالثة، وفي تجاوب مع كل ذلك، أقرت وزارة التربية الوطنية تحمل أعباء متطلبات تحقيق رهان تعميم الفلسفة على مختلف الأسلاك التعليمية بالمغرب دون أن تضع في الاعتبار ما يمكن أن تواجهه من مقاومة شرسة من طرف خفافيش الظلام، أولئك الذين يكرهون النور، ويتربصون بالفلسفة في أي مكان أو زمان.
وهكذا وضعت الوزارة استراتيجية متكاملة لتعميم الفلسفة على مختلف الشعب والمسالك بالتعليم الثانوي التأهيلي، ولتحقيق ذلك، حرصت على الرفع من عدد المناصب المالية المخصصة لأساتذة الفلسفة بشكل يستجيب لحاجيات التعميم والتوسع في الوعاء الزمني للمادة. وبناء على ذلك، تخرج من المدارس العليا في يونيو 2004 ما يناهز 400 أستاذ للفلسفة وحدها، وكان من المنتظر أن يرتفع العدد في السنة الموالية إلى 600 أستاذ جديد، على أن ذلك لم يتحقق، إذ تراجع العدد دون سابق إنذار إلى 120 أستاذا متخرجـا، وهو ما شكل إيذانا بعجز المشروع عن الاستمرار.
نعم، للفلسفة خصوم في مجتمعنا ليس من السهل تجاوزهم أو عدم الأخذ بعين الاعتبار أسباب وجودهم وقوة نفوذهم خلال التفكير في وضع استراتيجية لتعميم تدريس الفلسفة أو إعادة النظر في مناهجها، إنه المظهر الحقيقي لمحنة الفلسفة التي ولا شك أن أمر تعميمها وتطوير منهاج تدريسها يحتاج إلى قرار سياسي قوي وواضح، شجاع وجريء، قرار مسنود بحركة ثقافية مدعم اجتماعيا، كل ذلك في تجاوز تام لتلك المحاولات المترددة والمهزومة سلفا.