الجوهري: الجزائر والمغرب.. أو حبنا الحارق

الجوهري: الجزائر والمغرب.. أو حبنا الحارق عبد الإله الجوهري
منذ طفولتي، وانطلاقا من الحكايات التي كان يحكيها لي أبي رحمه الله، عن زيارته للجزائر أيام الاستعمار الفرنسي، وتجوله بين مدن الجنوب، وملاقاة الناس هناك، وربط علاقات أخوية  بهم، لم يستطع نسيانها لغاية وفاته. ومع تفتح ذائقتي الأدبية والتاريخية، بعد ذلك، واطلاعي على رواية "الأفيون والعصا" وأنا تلميذ في الاعدادي (بالمناسبة الرواية كتبها مولود معمري على أرض المغرب)، ومشاهدتي للفيلم المقتبس عنه (الذي وقعه المخرج الأحب إلى قلبي، بل أخي الأكبر الفنان أحمد الراشدي)، أحببت الجزائر حبا غير مشروط، وتمنيت زيارتها، وسعيت بكل ما أوتيت من قوة للوصول إلى هناك، والتجول في أرض أصبحت أعتبرها امتدادا لأرض بلدي المغرب، وروحا حقيقية تلامس شغاف قلبي. وقد تحقق ذلك، بداية الألفية الجديدة، من خلال حضوري لفعالية ثقافية بالخزانة السينمائية الجزائرية سنة 2002، حيث كان لي شرف تقديم فيلم "باي باي اسويرتي" لداود أولاد السيد، وفتح نقاش مع جموع السينيفيليين بإدارة الرجل الرائع بوجمعة كارش، هذا قبل أن تتوطد علاقتي بمجموعة كبيرة من الأصدقاء والأحبة، خلال زيارات تالية في مناسبات متعددة، لحد أن بعضهم أصبح جزءا من عائلتي، وأحس معهم أنني أصبحت مغربيا / جزائريا عن حب وقناعة، ولتتوالى زياراتي مرارا وتكرارا إلى الجزائر كأنني أزور أي منطقة من مناطق المغرب. كما أصبحت مهتما بالشأن الجزائري السياسي والإجتماعي والثقافي، بنفس مستوى اهتمامي بالشأن المغربي، بل ومدافعا دون هوادة عن كل ما هو جزائري في كل المناسبات، وسعيت لتقريب الأحبة، هنا وهناك، خاصة من يشتغل منهم بالمجال الفني السينمائي. لا أحد سينكر، من الفنانين الجزائريين والمغاربة، دوري في التعريف بالسينما الجزائرية، والدفاع عنها، ومحاولة جعل كل تظاهرة سينمائية مغربية حاضرة اللمسات الجزائرية في أنشطتها، سواء بعرض أفلام، أو حضور وفد أو فرد من العائلة الفنية الجزائرية.
وتكريم الرموز منهم (اسألوا بعضا من هؤلاء، وهم كثر، وسيعطونكم الخبر اليقين).
طبعا السياسة تلقي بظلالها الكالحة على كل واقع أو علاقة جميلة، والسياسيون يفسدون، عن وعي أو غير وعي، كل شيء بحساباتهم الضيقة. هنا أذكر ما قاله وزير الخارجية رمطان العمارة، في حفل افتتاح الدورة الأولى لمهرجان الفيلم المغربي بالجزائر العاصمة، (مهرجان لا أعرف أسباب توقيفه بعد دورتين)، حيث وجه كلمة دالة لجموع السينمائيين المغاربيين، أساسا المغاربة منهم، بقوله: "شكرا على حضوركم، إنكم تصححون الأخطاء التي نرتكبها نحن السياسيين، شكرا لكم يارجال ونساء الفن والسينما".
السياسة ومشاكلها الكثيرة بين البلدين، جعلت كل نظام يرسم صور شيطانية عن النظام الآخر، بل وينشر مفاهيم خاطئة وأكاذيب مخجلة، لحد تدجين الشعبين ( على العموم) وجعلهما يؤمنان بكليشيهات لا يصدقها العقل (المغرب يعيش فقط على التهريب والحشيش، والجزائر لا توجد فيها أدنى مقومات الحياة، بل الأسواق تنعدم منها الخضر والفواكه والزيت، مع انقطاع دائم للماء والكهرباء.. وهلما جرا من الخزعبلات)، وبالتالي أصبح كل من حاول أن يصحح هذه المعلومات الكاذبة، يسمى خائنا أو عميلا، أو على الأقل لا وطنيا بل"عياشا وماسحا للشيتة" من أجل هدف من الأهداف. شخصيا عانيت مع بعض الجهلة المغاربة، كما عانيت وأعاني مع بعض الجهلة الجزائريين، كل فريق يلغو بلغاه، وينعق كلما طالبتهم بالإنصات لصوت العقل والحكمة ويواجهونك بكلام مقتطع من قواميس الشعبوية الفجة. المصيبة هي أن بعض المحسوبين على الجسم الثقافي والفني، ممن يفترض فيهم الوعي والتعقل، تجدهم أكثر تخلفا وتعاملا مع الأحداث، بل منهم من يعرف الحقائق وعاش، هنا أو هناك، لكن الوطنية الضيقة تجعله يغمض العينين وينجرف مع تيار الشعبوية المقيتة.
 ورغم كل ما يمكن ان يقع، فإن عمق المحبو والأخوة تطفو إلى السطح، في كثير من الأحيان، دون سابق إنذار، لن أذكركم هنا بمشاعر النبل التي عبر عنها المغاربة خلال كأس افريقيا للأمم عندما كان يساند المنتخب الجزائري دون غيره، بل خروج تظاهرات في مدن مغربية عديدة بعد كل فوز لهذا المنتخب الذي شرف منطقتنا المغاربية. عودوا إلى الفيديوهات والصور وقوموا بقراءاتها قراءة واعية ستجدون أن عمق الاعماق داخل كل واحد فينا، في المغرب أو الجزائر، مغاربي بامتياز، اللهم حفنة من الأشرار، وطبعا في كل المجتمعات العالمية يوجد أمثال هؤلاء، وهم قلة ولا يمثلوننا بأي ال من الأحوال. 
السياسة لها حساباتها الخاصة، وعدوي اليوم قد يصبح صديقي غدا، والعكس صحيح، أما الدخول في المهاترات كلامية فلن تجلب غير الأحقاد بين أفراد الشعبين الأخوين، لأن الكثير من المسؤولين، ورغم صراخهم أمامنا و عنترياتهم الفارغة ومؤامراتهم ضد وحدتنا وحبنا المشترك، تجد لهم مصالح، هنا أو هناك، خاصة منها الاقتصادية، والدليل الأكبر أنني التقيت بمسؤولين جزائريين سابقين يقضون عطلهم في المغرب، أساسا مراكش، وقد عبر بعضهم عن اعجابهم بالمغرب وتفكيرهم الاستقرار هنا، بل منهم من له أملاك واستثمارات، وهذا أمر معروف من طرف الجهات المسؤولة لدى البلدين، والعكس صحيح، بل أن غلق الحدود لا يعاني منه غير الفقراء والناس العاديين، لأن أصحاب القرار والأغنياء، وكل من يملك شيئا من المال، يمكن أن يشتري تذكرة الطائرة ويصل إلى وجهته بكل سهولة. في هذا الإطار دعوني أحكي لكم حكاية عشتها شخصيا: 
(كل تعليق يركب صهوة المزايدة، سأكون معه ديكتاتوريا، نعم ديكتاتوريا، وسأحذفه، لأن التدوينة مكتوبة بحب، فأتركونا، رحمكم الله، نسبح في مجراه)
خلال فعاليات مهرجان وهران في دورته الثانية، كنت أتجول وسط المدينة، وأنا عائد للفندق (شيراتون)، بالضبط عند المدخل، استرعى انتباهي رجل أعرفه جيدا، تساءلت ماذا يفعل هنا، خاصة أنه المسؤول الثاني في النظام المغربي. تقدمت منه وسألته: واش أنت السي علي؟. ابتسم و سألني بدوره: هل الأخ جزائري؟. قلت له: لا، مغربي. بادرني بسؤال ثان: ماذا تفعل هنا؟. قلت: أحضر مهرجان وهران السينمائي. فقال لي: أنا ايضا جئت لأحضر المهرجان. ضحك من اعماق قلبه، قبل أن يسألني عن الوفد المغربي، ويدعوننا جميعا للقاء به لكي يحتفي بنا بحضور بعض الفنانين العرب الحاضرين خلال المهرجان.
في الغد التقيت مدير المهرجان، فسألته: ماذا يفعل علي الهمة هنا؟. اكتفى بالضحك دون أن يرد على سؤالي بشكل واضح اللهم قوله: إنه صديق عزيز جاء ليؤازر المهرجان.
خلاصة القول: أن للسياسة دهاليزها المعتمة التي لا تنار إلا بمصابيح المصلحة، مصلحة يفهمها من يستفيد منها. أما الخلافات "القائمة اليوم بين النظامين"، هي خلافات تخدم في العمق المسؤولين وأصحاب المال والأعمال، لأن كل نظام يبحث عن شرعية وجوده في وجود عدو يقدمه على أنه يتربص بالبلد والعباد. لهذا نتمنى أن نترفع جميعا عن الحزازات الفارغة وعدم الانسياق وراء الشعارات والعواطف الخادعة. لأننا فعلا شعب واحد، وخلافاتنا تشبه خلافات الكثير من البلدان التي يتم تجاوزها بالحوار المتمدن وحسن الإنصات، وليس المزايدة والطعن بالكلام الجارح والتدخل في الشأن الداخلي لكل مجتمع. ومحاولة املاء ما يجب عليه أن يفعل، وأن يحترم كل واحد منا وحدة البلد الجار وسيادته على كامل ترابه... وكل عام ومنطقتنا المغاربية بألف ألف خير.
عبد الإله الجوهري ناقد ومخرج سينمائي