شهادات المصباحي والشراك وكوكاس في "مدارات" تكريما لشموخ المفكر محمد سبيلا

شهادات المصباحي والشراك وكوكاس في "مدارات" تكريما لشموخ المفكر محمد سبيلا من اليسارإلى اليمين: أحمد المصباحي وأحمد شراك وعبد العزيز كوكاس وعبد الإله التهاني

تكريما لروحه الطاهرة، وإنتاجاته وتأملاته الفكرية وكتاباته الفلسفية، استعاد برنامج "مدارات" في حلقة ليلة الجمعة 30 يوليوز 2021، مشاهد من السيرة الفكرية والجامعية للمفكر المغربي الراحل الدكتور محمد سبيلا، من خلال تقديم شهادات حول مشروعه الفكري ومساره الجامعي، وجوانب من شخصيته الإنسانية. حيث تحدث عنه في هذه الحلقة، كل من المفكر الفلسفي الدكتور محمد المصباحي، والباحث السوسيولوجي والناقد الدكتور أحمد شراك، والكاتب والناقد والإعلامي الاستاذ عبد العزيز كوكاس.

 

عبد الإله التهاني: كان يؤمن بأن مكان المفكر ليس في احتراف السياسة

 في ورقته التقديمية أكد الزميل عبد الإله التهاني معد ومقدم برنامج "مدارات" على أنه "برحيل الكاتب و المفكر الدكتور محمد سبيلا، فقدت الثقافة المعاصرة واحدا من أركانها الذي درس الفلسفة ودرسها، وعاش معها وبها. وتصدى للعديد من القضايا الفكرية. مفككا المجال السياسي والحقوقي والحقل التربوي ومنظومة القيم" على اعتبار أنه كان يؤمن بأن "مكان المفكر ليس في احتراف السياسة، وإنما دوره ومهمته هو مساءلة الأحداث والوقائع بأدوات التحليل العلمي من خلال رؤية متحررة، حتى يكون الفكر مسهما في تأطير السياسة لا تابعا أو ذيلا لها"

بالنسبة للزميل عبد الإله التهاني فقد "حرص الراحل المفكر محمد سبيلا على أن يكون موضوعيا في تحليله، ومسهما في اقتراح المسالك التي تقود إلى الحلول، من أجل استخلاص الدروس والعبر". حيث تميز المشروع الفكري الضخم لسبيلا بـ "تركيز خاص على سؤال الحداثة وهاجس التنوير" مرتكزا على الأبعاد الثلاثة "الحداثة التقنية، والحداثة الإجتماعية، والحداثة الفكرية".

وعن سيرة حياته فقد ولد المفكر الراحل الدكتور محمد سبيلا سنة 1942 بمدينة الدار البيضاء، وتابع دراسته بكل من جامعة محمد الخامس كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط وجامعة السوربون بباريس، حيث حصل سنة 1967 على الإجازة في الفلسفة وفي نفس السنة التحق محمد سبيلا باتحاد كتاب المغرب، وفي سنة 1974 حصل على دبلوم الدراسات العليا، ونال دكتوراه الدولة سنة 1992 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. حيث اشتغل أستاذاً جامعياً بكلية الآداب بالرباط، وشغل منصب رئيس شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس بكلية الآداب بفاس ما بين  و 1980، وترأس الجمعية الفلسفية المغربية ما بين 1994 و 2006 . في هذا السياق قال عنه معد برنامج حوار في الثقافة والمجتمع "مساره كأستاذ جامعي كان حافلا بالحيوية المتعددة. كان حريصا على التجدد والمثابرة مع قرب إنسانيته مع الطلبة. حيث توزعت حياته الجامعية بين كلية فاس بظهر المهراز وكلية الآداب محمد الخامس بالرباط". أما خارج أسوار الجامعة "كان إشعاعه أقوى من الحركة الفكرية. كانت مقالاته البحثية ومحاضراته تؤسس لصورة المثقف المنشغل بقايا الفكر وحركة التنوير".

على مستوى الإنتاج الفكري فقد ترك الراحل محمد سبيلا أضمومة من الكتب والمؤلفات والإصدارات ساهمت في تعزيز رصيد المكتبة المغربية خاصة والعربية عامة نذكر منها: "مدارات الحداثة" و "سلسلة كراسات فلسفية" ثم "الإيديولوجيا: نحو نظرة تكاملية" و "الأصولية والحداثة" بالإضافة إلى "المغرب في مواجهة الحداثـة" و "الحداثة وما بعد الحداثة" فضلا عن "للسياسة بالسياسة" و "أمشاج" و "دفاعاً عن العقل والحداثة" علاوة على "زمن العولمة في ما وراء الوهم" و "حوارات في الثقافة والسياسة" و " في الشرط الفلسفي المعاصر" و "مخاضات الحداثة" و "الأسس الفكرية لثقافة حقوق الإنسان"  و "في تحولات المجتمع المغربي" و "الشرط الحداثي ".

في سياق متصل قام الراحل الدكتور محمد سبيلا بترجمة عناوين لكبار المفكرين والفلاسفة الغربيين نذكر منها: "الفلسفة بين العلم والإيديولوجيا"، للكاتب ألتوسير، وكتاب "التقنية – الحقيقة - الوجود " لمارتن هايدجر وكتاب "التحليل النفسي" لبول، بول لوران أسون. وكتاب "نظام الخطاب" لميشيل فوكو، فضلا عن كتاب "تساؤلات الفكر المعاصر" بالإضافة إلى كتاب "حوارات الفكر المعاصر"، ثم كتاب "التحليل النفسي" لكاترين كليمان. علاوة على كتاب "الفلسفة الحديثة" من خلال النصوص، ترجمة واختيار محمد سبيلا وعبد الله بنعبد العالي. بالإضافة إلى إسهاماته في التأليف المدرسي والجامعي في مجموعة من الكتب المدرسية منها "مباهج الفلسفة" للسنة الثانية بكالوريا، و "الفلسفة الحديثة وسلسلة دفاتر فلسفية" بالاشتراك مع الدكتور عبد السلام بنعبد العالي، كما اشتغل الدكتور محمد سبيلا على مجموعة من المواضيع السوسيولوجية والسيكولوجية الأنثربولوجية والفلسفية.

شهادة الدكتور محمد المصباحي: سبيلا كان مسكونا بالحداثة

عن شريط ذكرياته قال: "كان للمرحوم محمد سبيلا حضور قوي وخاص، سواء بهامته الممشوقة أو بابتسامته الغامرة، وبهجته التي لا تنقطع. كانت روحه خفيفة...حتى خطه الذي يكتب به خطا جميلا و واضحا، كان سريع البديهة، وامتاز بتعاليقه الصارخة". واستحضر في حديثه عن الرجل بعض الأسماء اللامعة من مجموعة الدار البيضاء الملتزمة بالفكر اليساري (القرب من حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية)، و التي كانت تميل للإشتغال على قضايا الحداثة كتابة وترجمة، من أمثال سالم يفوت ومحمد وقيدي وربيع مبارك...وجمال الدين العلوي وطه عبد الرحمن حيث وصفه بـ "القامة المديدة، والحضور المتألق بحسه الإجتماعي التواصلي...كان يتميز بجاذبية أكثر من غيره".

وشدد الدكتور محمد المصباحي في شهادته على أن سبيلا "كان مسكونا بالحداثة، يتتبع مسالكها، وينقب عن ففتوحاتها ومراجعتها وانتقاداتها...في أفق رصد العوائق التي حالت دون ظهور الحداثة في المغرب والعالم العربي"، من هنا تركيزه على دراسة مواضيع "العقل والحرية والتغيير...ولم يركز اهتمامه بالحداثة على موضوع معين. لقد جمع بين ثورية ماركس، ونزقية ومرح نيتش، وجنسانية فرويد، و وجودية هايدغر..في حين لم يكن يتجاوب مع شخصانية الحبابي".

وأضاف في شهادته قائلا: "كان حريصا على استقطاب معظم الطلبة المتفوقين، وفي نفس الوقت حريصا على أن يكون متساهلا في إشرافه. كان يهمه قدرة الباحث على طرق أبواب جديدة في البحث". على اعتبار أن سبيلا "كان تعلقه بالحداثة بمثابة رسالة توجه حياته الأكاديمية، بعد أن ظهر تعلقه و ولعه بالحداثة مبكرا".

شهادة الباحث السوسيولوجي أحمد الشراك: المثقف الذي يتكلم معرفة وشموخا

في مستهل شهادته أكد الشراك على أن المرحوم سبيلا كان "أستاذا شامخا، تعرفت عليه من خلال ما كان يكتب في مجلة أقلام في بداية السبعينيات، كانت جل مقالاته وإصداراته بدون صور، حيث حضور الصورة ينظر إليه بعين واطئة. ولم أعرفه إلا في حدود سنة 1974، بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس حيث كان أستاذي (نظرية المعرفة)". وأضاف مؤكدا بأن الأستاذ بسليا كان "يلقي درسه واقفا. كان يتكلم معرفة وشموخا، حيث كنا ننصت إليه بكثير من الجوارح. كان أستاذا بمعنى الكلمة، عارفا بما يجري بالساحة الطلابية، وملما بمختلف التيارات الفكرية، يعرف طلبته واحدا واحدا، ويعرف حساسياتهم الفكرية والسياسية"، ورغم كل ذلك أكد أحمد الشراك بأن سبيلا "كانت له القدرة على احترام الإختلاف، هذه الصفة كانت نادرة في عصر الدغمائيات. كان حداثيا في شكله وعلى مستوى الممارسة والسلوك، وهذا مظهر من مظاهر الحداثة التي كان يؤمن بها على مستوى التفكير بعيدا عن الحقيقة المطلقة والدغمائية والوثوقية".

وشدد الباحث السوسيولوجي أحمد الشراك على أن الراحل محمد سبيلا "كان يؤمن بالحداثة، وما هي مظاهرها، وما هي تجلياتها، وكيف يمكن التعامل معها. وكان له الفضل في تقريب الإيديولوجيا إلى الأذهان ، ومختلف مدارسها ( الإيديولوجيا كمعرفة وعلم)"، لذلك يضيف في شهادته قائلا: "أستاذيته أيضا يلمحها القارئ على مستوى الكتب التي ترجمها وألفها، وفيها الكثير من المعرفة التواصلية على مستوى فئات عريضة من الناس...كان يحدد المفاهيم ويعرفها ويقربها من قرائها".

ومن أقوى الصفات التي ركز عليها الشراك في شهادته قوله: "كان سبيلا يعشق الحرية، ويقول رأيه باستقلالية ولا يخشى في ذلك أحدا. لم يضع يوما امسه في المزاد العلني. لم يمارس يوما فكرا تملقيا. لم يستعمل فكر المجاملة. لم يسعى يوما إلى التقرب من المواقع. كان فكره شغالا بطريقة علمية نقدية بعيدا عن التزلف والتقرب. كان مثقفا مشاكسا يصعب حتى على المعارضة استيعابه" ليخلص إلى أن روح سبيلا كانت "حداثية. روح المشاكسة والأستاذية والبيداغوجية في التفكير والنقدية جعلت منه إسما محترما سواء في الأوساط الفلسفية والأوساط السوسيولوجية والسيكولوجية وحتى لدى الأدباء...سبيلا اسم احترف التخصص ليحضر في مخيال الثقافة المغربية بصورة جماعية". وختم شهادته الحميمية والشاملة بالقول: "لقد عاش شامخا، ومات شامخا رحمة الله عليه".

الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس: سبيلا منارة كبرى في الفكر العربي والمغربي

كونه ارتبط بعلاقة متميزة مع الراحل الدكتور محمد سبيلا على مستوى الفكر والكتابة والتواصل عن قرب فقد أطلق عليه الكاتب والناقد والإعلامي عبد العزيز كوكاس وصف يليق بمكانته العلمية حيث قال عنه "المبدع الأنيق. القامة العالية والمنارة الكبرى في الفكر العربي والمغربي". على اعتبار أن الرجل من "المفكرين الفلاسفة الذين اشتغلوا على مشروع فكري ضخم لإبراز الإشكالات الكبرى التي تصدى لها بالدرس والتحليل ".

وأكد في شهادته بأن محمد سبيلا "كان مبتدأه ومنتهاه البحث عن الشرط الحداثي (محور الصراع الوجودي في المغرب) بعد أن أشبع حقل البحث بالمعرفة لينتقل إلى أسئلة الحداثة والتحديث. (تحديث وعينا بالتاريخ والوجود والعالم)، على اعتبار أنه "كانت الحداثة تعني له الإنتساب للزمن والإنصات لأسئلته. ولم يبقى حبيس التنظيرات للحداثة حيث انتقل إلى مجال أرحب لدراسة وتحليل أعطاب الحداثة في الفكر وفي المجتمع وفي المؤسسات...وكان غرضه الأساسي تفكيك الأماكن المعتمة لأن التقليد بالنسبة لسبيلا (حرايمي) يتمدد بوجه حربائي في سلوكنا وممارساتنا".

في سياق متصل أوضح عبد العزيز كوكاس قائلا: "كان يبدو مناصرا للحقيقة. لأن الحقيقة بنت زمانها وليست بنت أي سلطة"، واستطرد موضحا بأن الراحل "عمل على تشجيع البحث في قضايا المرأة، واللغة، والتقنية وحقوق الإنسان". لذلك يؤكد بأن المفكر سبيلا "لم يكن يسبح في برج عاجي بل كان ينزل الواقع (المغرب في مواجهة الحداثة) حيث يذهب إلى المنفلت وإلى الإشكالات الصغرى ليبرز أعطاب الحداثيين أنفسهم".

هكذا يرى كوكاس في شهادته بأن المرحوم سبيلا "لم يكن يتخذ الفلسفة كتخصص وترف فكري، كان أستاذا لأجيال أصبحت متخصصة في فلسفة الفن، وفلسفة حقوق الإنسان....كان متعددا وباذخا في عطاءه. لقد جعل الفلسفة سلوكا يوما في الحياة. يفكك ما يختفي وراء الإنطباعات العامة. الحداثة لديه تعني الممارسة والفكر الفلسفي تجده في سلوكه اليومي".

لم يفت زميل الراحل محمد سبيلا في شهادته أن يتحدث عن التهميش الذي تعرض له "من طرف حماة التقليد سواء في اليسار أو اليمين ومن طرف حراس الظلام والتقليد". لأنه كان يؤمن بأن "الشيطان يوجد في قلب السياسة".

لقد تعرف كوكاس على الأستاذ محمد سبيلا باكرا "في مدرجات كلية الآداب بالرباط، عن طريق صديقه أحمد العقاد المتخصص في الفلسفة حيث قاده إلى إحدى محاضرات السي محمد سبيلا في خريف سنة 1985" حيث سيتعرف على كل من المفكر محمد عابد الجابري ومحمد سبيلا ويربط معها صداقة العلم والمعرفة. هذه الفرصة كانت منعطفا في حياة كوكاس الذي "مال إلى الكتابة" وخاض تجربة غنية مشتركة مع سبيلا في جريدة الزمن (1995/1996) وأصبح عضوا في هيئة تحريرها رفقة أسماء لامعة في حقل الصحافة والإعلام.(المساري والسحيمي و حميد لشهب...). حيث قال في هذا الصدد موجها كلامه ذات يوم للمفكر سبيلا : "إنك تزرع نباتات متعددة في حقول شاسعة".

وعن تميز المرحوم على مستوى عشق الكتابة على الورق أكد كوكاس على أن سبيلا "كائن ورقي بامتياز رغم اتقانه للتكنولوجيا. وكان يفهم ويعي معنى التحولات التي تجري وكان ينظر لها. ومع ذلك كتنت له علاقة حميمة جدا بالورق والقلم ولم يستطع الإنفكاك منهما. لأنه كان مفتتنا بلعبة السواد على البياض بحكم خطه الجميل"، وأضاف موضحا بالقول: "كان يمتاز بخطه العربي الرائع. وكان يعتبر التقنية باردة تتشابه خطوطها. أما خطوط كلماته فإنها تتمايل بكبرياء وشموخ على الورقة، تتراقص أعضائها على نغمات موسيقى خفيفة تبهج الروح" يوضح الناقد والكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس.