مولاي بوبكر حمداني: الاعتراف الامريكي بسيادة المغرب على كامل الصحراء يعيد رسم خارطة الدبلوماسية المغربية

مولاي بوبكر حمداني: الاعتراف الامريكي بسيادة المغرب على كامل الصحراء يعيد رسم خارطة الدبلوماسية المغربية مولاي بوبكر حمداني
لقد شكلت الفترة الفاصلة بين خطابي العرش لسنة 2020 و2021 مرحلة فارقة للسياسة الخارجية المغربية في تدبير عديد الملفات، وعلى مختلف الاصعدة الثنائية والمتعددة الأطراف، كما شهدت تصاعد حضور بعض العوامل المؤثّرة في بناء هذه السياسة الخارجية على حساب عوامل أخرى كانت أشدّ حضوراً تقليدياً، وكان من بين أبرز نجاحات الدبلوماسية المغربية خلال عام 2020 هو الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على كامل الصحراء.
فمن الجدير بالذكر أنه بفضل القيادة الحكيمة للملك محمد السادس تمكن التحرك الدبلوماسي المغربي الفاعل من جلب الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على كامل الصحراء كإنجاز توج مجموعة من النجاحات في تدبير هذا الملف، فبمجرد اصدار رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب مرسوما رئاسيا بتاريخ 10 دجنبر2021، بما له من قوة قانونية وسياسية ثابتة، وبأثره الفوري، والقاضي باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية، لأول مرة في تاريخها، بسيادة المملكة المغربية الكاملة على كافة منطقة الصحراء المغربية، كان ذلك بمثابة التحول الفارق في معالجة هذه القضية التي طال أمدها.
وكأول تجسيد لهذه الخطوة السيادية الهامة، قررت الولايات المتحدة في ذات المرسوم أنها ستفتح قنصلية بمدينة الداخلة، تقوم اساسا بمهام اقتصادية، من أجل تشجيع الاستثمارات الأمريكية، والنهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لاسيما لفائدة ساكنة الأقاليم الجنوبية.
كما تم توزيع نص الإعلان بعد ذلك على الدول المائة والثلاثة والتسعين الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، كوثيقة رسمية لمجلس الأمن. ووجهت بهذه المناسبة رسالة إلى رئيس مجلس الأمن، وبعثت نسخة منها إلى الأمين العام للأمم المتحدة، حيث نُشر القرار على الموقع الرسمي للأمم المتحدة باللغات الرسمية الست.
ولقد عزز الاعلان الرئاسي الذي وقعه دونالد ترامب الشراكة الاستراتيجية القوية بين المغرب وامريكا، وارتقى بها إلى تحالف حقيقي وقدم توجهين أساسيين يمكن القول بأنهما سيشكلان خطوطا رئيسية للسلوك السياسي الخارجي والمؤثر لصانع القرار المغربي في مرحلة ما بعد التعافي من تداعيات جائحة كورونا فالتوجه الأول هو الاستثمار في اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على كامل أراضي الصحراء لجلب المزيد من اعترافات الدول، والتوجه الثاني هو الانخراط بشكل فعال في الاستفادة من الدعم الامريكي لمقترح الحكم الذاتي المغربي باعتباره الأساس الوحيد لحل عادل ودائم للنزاع على أراضي الصحراء.
الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء.
إن الاعتراف شأنه شأن سائر تصرفات الدولة ينبع من إرادة الدولة ورضاها وأنه متى صدر الاعتراف عن الدولة أصبح حجة عليها (estoppel) تمنعها بعد ذلك من سحبه، هذا فضلا عما يترتب عليه من آثار وتعهدات قانونية قد تقيد الدول في تصرفاتها فيما يتعلق بكيان الدولة المعترف بها ومصالحها بعد صدور الاعتراف، ويرجع ذلك إلى عدم وجود سلطة تعلو على سلطة الدولة في المجتمع الدولي تملك أن تفرض عليها الأوامر والنواهي. فجميع تصرفات الدولة تكون نابعة من إرادتها وبرضاها باستثناء التصرفات التي تفرضها عليها ظروف استثنائية مثل القوة القاهرة أو الهزيمة في الحرب وما يتبعها من تنازلات لا خيار لها فيها.
وحيث أن الدول لا يمكن أن تتصرف إلا بواسطة وكلائها وممثليها وعن طريقهم، فإن الدستور الأمريكي لم يسند صلاحية الاعتراف بالدول الأجنبية لإحدى السلطات بنص صريح، لكن العرف الدستوري المعمول به في الولايات المتحدة أسند هذه المهمة للرئيس الأمريكي منذ عهد الرئيس جورج واشنطن، كما ذهب جانب من الفقه إلى أن هذه الصلاحية هي من صميم اختصاصات السلطة التنفيذية ولا تشاركها فيها سلطة أخرى وإلا عدت المشاركة من قبل سلطة أخرى خروجا على مبدأ فصل السلطات.
وذهبت المحكمة العليا في حكم لها إلى أن: "الرئيس إنما هو جهاز الحكومة الاتحادية الأوحد في ميدان العلاقات الخارجية فهو يتمتع بسلطة لا يحتاج في ممارسته لها لقانون يسنه الكونغرس "، وبناءً عليه فان دونالد جيه ترامب بصفته رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وبموجب السلطة المخولة له بموجب دستور وقوانين الولايات المتحدة، يكون قد مارس اختصاصا حصريا عند إعلانه أن الولايات المتحدة تقر بأن إقليم الصحراء هو جزء من المملكة المغربية.
وفضلا عن ذلك فإن جميع الرؤساء الأمريكيين الـخمسة والاربعين قد أصدروا مرسوما واحدا على الأقل، باستثناء واحد فقط هو هنري هاريسون الذي توفي بعد شهر من أدائه اليمين كرئيس للولايات المتحدة، وتبقى هذه المراسيم ملزمة إلى كل المؤسسات الأمريكية، وبالرغم أن الدستور الأمريكي لا يوجد به ما يُسمى "الأمر التنفيذي"، الا أن التعليل القانوني في مفعول هذه المراسيم يسند عادة الى السلطة التنفيذية، التي يخولها الفصل الثاني من الدستور للرئيس المنتخب.
إضافة الى ذلك يرى فريق كبير من الفقه في القانون الدولي على أن الاعتراف عمل سياسي وليس بإجراء قانوني، ويدللون على صحة رأيهم بممارسات الدول في حالات الاعتراف المختلفة التي تتحكم فيها نزعات الدول ومصالحها السياسية.
فالاعتراف عند الولايات المتحدة الأمريكية يقابل مفهوم القبول (approval)، فهي تعترف بالدول التي تحظى لديها بالقبول وتمنع اعترافها عن تلك التي لا تتقبلها بغض النظر عن الاعتبارات القانونية، ولعل أوضح مثال لهذا هو اعترافها بإسرائيل عند نشأتها رغم عدم اعتراف اغلبية المنتظم الدولي آنذاك بشرعية وجودها، وقد أكد مندوب الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة في تلك الفترة أوستن W.R. Austin الصفة السياسية للاعتراف لدى بلاده في خطابه أمام المنظمة، ووصفا اياه بأنه اعتراف واقعي (de facto Recognition) ومن صميم أعمال السيادة المخولة لدولته، ومضيفا أنه لا توجد محكمة أو أية جهة أخرى- أيا كان نوعها- تملك التعقيب على شرعية أو فعالية تصرف الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الخصوص. حين صرح ردا على سؤال حول شرعية هذا الاعتراف:
"I should regard it as highly improper for me to admit that any country on earth can question the sovereignty of the United States of America in the exercise of that high political act of recognition of the de facto status of a state. Moreover, I would not admit here by implication or by direct answer, that there exists a tribunal of justice or any other kind, anywhere, that can pass judgment upon the legality of the validity of that act on my country"
الحكم الذاتي المغربي الأساس الوحيد لحل عادل ودائم
هناك حالات عديدة صدر فيها الاعتراف مقترنا بشروط conditional فقد تشترط فيه الدولة في اعترافها بالدولة المعترف بها الوفاء بتعهدات معينة أو الوفاء باشتراطات خاصة كالتزامها بحماية الأقليات العرقية أو الدينية أو اللغوية، أو إصدار تشريعات داخلية تكفل حرية العقائد الدينية أو السياسية، أو التزامها بغير ذلك من الالتزامات، ولعل هذا ما ورد في نص الإعلان الرئاسي الذي اشتراط المضي في مقترح الحكم الذاتي المغربي باعتباره الأساس الوحيد لحل عادل ودائم للنزاع على أراضي الصحراء وكإطار وحيد للتفاوض على حل مقبول للطرفين، مما يجعل الاعتراف الأمريكي يتوافق مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والحالات المماثلة في العالم. بتنصيصه على شرط يسمح بالتقدم نحو تحقيق مبدأ تقرير مصير الإقليم في إطار السيادة المغربية، ومن هنا يتضح أنه يتعذر من ناحية مسؤولية الدول عن تصرفاتها أن تتراجع إدارة جو بايدن عن قرار الإدارة السابقة التي لم يجبرها أحد على اتخاذه.
وتأسيسا على ذلك فان الإدارة الامريكية باتخاذها هذه الخطوة تكون قد توجت ثلاثة عقود من الدعم الأمريكي للعملية السياسية في الصحراء، حيث ظلت دائما متحملة مسؤولية أن يكون هناك التزام قوي بحل هذه القضية باعتبارها حاملة القلم في ملف الصحراء بمجلس الامن.
وقد تبين أن مقترح الحكم الذاتي كحل جاد موثوق وواقعي خرج من رحم المشاورات المعمقة بين الملك محمد السادس وإدارة الرئيس بيل كلينتون وفق مقال لوزير الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ناصر بوريطة بجريدة الشرق الاوسط، ومنذ ذلك الحين وعلى مدى تعاقب الإدارات الامريكية سواء الديمقراطية مع كلينتون أو أوباما، أو الجمهورية مع جورج بوش الابن وصولا لإدارة ترامب فإنها جميعا قدَّمت الدعم للحكم الذاتي باعتباره حلاً سياسيا توافقيا لهذا النزاع الإقليمي، وهو ما كرسته جميع قرارات مجلس الامن منذ 2007.
إن الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب بحكم الواقع كان دائما محط توافق السلطتين التنفيذية والتشريعية الأمريكيتين، اللتين يمثلهما على التوالي الرئيس ومجلسا الكونغرس، ففي استخدام اعتمادات التعاون المخصصة للمغرب، تحت الفصل الثالث كانت تشمل جهة الصحراء، وهو الموقف المنسجم أبضا مع مصادقة الاتحاد الأوروبي على الاتفاق الفلاحي واتفاق الصيد البحري بأغلبية ساحقة والذين يشملان أقاليم الصحراء مع باقي التراب الوطني للمغرب، إضافة إلى ذلك فقد اعتبرت الولايات الامريكية المغرب دائما حليفًا وشريكًا في الحرب الأمريكية على الإرهاب في شمال افريقيا والساحل وصنفته كواحد من ثلاثة حلفاء رئيسيين من خارج الناتو في إفريقيا حيث يجري معه الجيش الأمريكي تدريبات عسكرية سنوية، كما أنه البلد الأفريقي الوحيد الذي وقعت معه اتفاقية للتبادل الحر.
ولم تعلن معظم دول العالم رفضها للاعتراف الامريكي باستثناء الموقف الروسي، وهو امر متوقع لكون روسيا عادة ما تناكف المواقف الامريكية في العديد من القضايا والملفات وتبحث لها عن موقع قدم في منطقة شمال أفريقيا، بينما حتى الآن، كما عبرت إدارة جو بايدن أنه لا تغيير في المواقف التي اتخذتها سابقتها.
وحري بالذكر أنه منذ دخول المغرب لمرحلة التحول الديمقراطي وترسيخ دولة المؤسسات وحقوق الانسان، تم تنظيم الانتخابات دورية في الصحراء وفق المعايير الدولية من حيث الشفافية والنزاهة واحترام الحريات العامة والتنافس الانتخابي، حيث افرزت ممثلين شرعيين للصحراويين من صناديق الاقتراع، وتن اشراكهم في الوفد المغربي الى جانب فاعلة مدنية في الموائد المستديرة بجنيف 1 و2، في خطوة وصفت بالديمقراطية والمتقدمة في اشراك الممثلين الشرعيين لساكنة الصحراء في المفاوضات بشأن مصير الإقليم.
وعلى مستوى مراقبة حقوق الاسان بالصحراء تعمل كل من مؤسسة الوسيط (امين المظالم) واللجان الجهوية لحقوق الانسان بالعيون والداخلة والتي أشاد مجلس الامن بعملهما المهني على الرقابة المستمرة لأوضاع حقوق الانسان بالمنطقة وفق مبادئ باريس الناظمة لعمل المؤسسات الوطنية لحقوق الانسان.
وبالموازاة مع ذلك أطلق المغرب نموذجا للتنمية لفائدة الساكتة المحلية بالصحراء بميزانية تتجاوز 7 مليارات دولار على مدى عشر سنوات تشمل مجالات التعليم والصحة والتشغيل والتفافة والاستثمار خاصة في الطاقات المتجددة والصيد المستدام والسياحة.
الاعتراف الأمريكي نقطة تحول فارقة في التحرك الدبلوماسي المغربي الفاعل
إن الأهمية الجيواستراتيجية لمنطقة الصحراء تتمثل في أنها تشكل نقطة انطلاق محورية للولايات المتحدة للقارة الافريقية والتي تشهد سوقها البالغة أكثر من مليار وثلاثمائة مستهلك تنافسا قويا خاصة بين دول الاتحاد الأوربي واساسا فرنسا والصين القادمة بقوة، لذا سيشكل افتتاح قنصلية للولايات المتحدة في مدينة الداخلة بالصحراء مجالا واسعا لتعزيز الفرص الاقتصادية والتجارية للولايات المتحدة بأفريقيا وسيزيد من إمكانات التنمية للساكنة ويدعم العملية السلمية والديمقراطية وحقوق الانسان بالإقليم. ويعزز الجهود الدولية بأمن واستقرار شمال افريقيا وجنوب الصحراء ومكافحة الأخطار الجسيمة التي تشكلها الجريمة المنظمة عبر الوطنية في منطقة الساحل الأفريقي، وإزاء صلاتها المتنامية بالإرهاب بما في ذلك تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وغيره من والجماعات المتطرفة المرتبطة به. كما أنه سيعزز من فرص الاندماج المغاربي والوحدة الافريقية.
أن الموقف الايجابي للولايات المتحدة الأمريكية، لتعزيز دينامية ترسيخ مغربية الصحراء، بات يطرح على الدبلوماسية المغربية بذل مجهودات مضاعفة للبناء عليه من خلال أربع توجهات رئيسية:
أولا: الاعتراف بالسيادة: حيث لا مناقشة في السيادة الكاملة للمغرب على صحرائه، باعتبار قضية الصحراء قضية وجود وليست قضية حدود وبالتالي لا تفريط في الأرض.
ثانيا: مبادرة الحكم الذاتي، التي شهد المجتمع الدولي بجديتها ومصداقيتها هي الحل وبدونها فإن النزاع سيظل قائماً مما يعزز حقيقة أن المشكل لا يكمن في الوصول إلى شكل للتسوية، وإنما في المسار الذي يؤدي إليها.
ثالثا: اهمية إدخال الولايات المتحدة الأمريكية شريكاً كاملاً في المفاوضات، على أساس الالتزام التام بالمرجعيات التي اعتمدها في الإعلان الرئاسي وهي الاعتراف بالسيادة ودعم الحل التوافقي القائم على الحكم الذاتي وكم جهة أخرى بتوظيفها لما تملكه من قدرة وتأثير ايجابي لحث جميع الأطراف، التي بادرت إلى اختلاق هذا النزاع، لأن تتحمل مسؤوليتها الكاملة في الحل.
رابعاُ: المحافظة على استمرار التحرك السياسي والدبلوماسي في مرحلة ما بعد جائحة كورونا عبر إطلاق مبادرات رئيسية لتعزيز الأداء الدبلوماسي المغربي في قضيته الاولى، وإحباط محاولات الجزائر للتعويق والمماطلة، وكشف أساليبها أمام الرأي العام العالمي.

الدكتور مولاي بوبكر حمداني باحث متخصص في السياسة الخارجية

رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية