مصطفى المتوكل الساحلي: أزمة العقل السياسي والمؤسساتي والمجتمعي؟

مصطفى المتوكل الساحلي: أزمة العقل السياسي والمؤسساتي والمجتمعي؟

بناء العقل وتهذيبه وتحصينه وترشيده منذ بدايات إدراكه، ثم بالمؤسسات التربوية والتعليمية والتأهيلية على قيم الأخلاق الإنسانية والوطنية هو الضمانة الوحيدة للاستثمار والتنمية في الموارد البشرية من أجل نهضة شاملة، وهو القاعدة الصلبة  لتحقيق الأمن بتقوية الإيمان بالعدل وحقوق الإنسان حتى تصبح ثقافة تحقق مصداقية للأفراد والجماعات والمؤسسات.

إن تجريد الإنسان من عقله بتعطيله وشحنه بالممنوعات والمحرمات والمكروهات باسم السياسوية "الدينية". أو السياسة السياسوية التي تزرع في الشعوب المزيد من الجهل والجهالة والجبن والوقاحة والانتهازية والنفاق، حتى تنعدم كل الألوان إلا الأبيض والأسود، فيصاب الجميع بعمى الألوان وضلال العقول وبؤس وفراغ في الأنفس والأرواح، فيستوي الخبيث والطيب، بل يصبح الشر والانحراف خيرا وتحضرا وشطارة.

إن الإعداد الأفضل  للعقل يكون بجعله مهيأ لما خلق له، أي إعمار العالم وبناؤه برؤية مستقبلية قوية ومتفاعلة تطورا وعطاء. أما عندما نجده مشحونا بالأفكار الرجعية الظلامية، أي التي تعمل كل ما في وسعها لتناهض التطور والتحديث وتعميم المعرفة، ولتمنع إرساء المساواة والعدل وقيم المواطنة الحقة، فإننا نكون أمام ردة وانتكاسة يستوي فيها ويكتوي بنارها من تسبب أو ساهم فيها بمن واجهها أو سكت عنها. إن أوراش وأعمال إعادة البناء لا تكون "ب" و"مع" الذين لا يؤمنون بالنزاهة والشفافية والصدق وحب الصالح العام وخدمة الناس وفق المستطاع وزيادة، لأنه سيختلط الذين يعملون مع الذين لا يعملون، وباللذين يبنون مع الذين يعطلون ويهدمون، وبالصادقين والكاذبين والمشككين، فلا يكتمل الصرح وأنت تبني وغيرك يهدم.

إن من ينافق ويكذب على نفسه مؤهل للكذب على محيطة والناس كافة وحتى على الله، ولهذا لا غرابة أن يظهر على السطح بغياب واعتزال العقلاء والمتشبعين بالخير نماذج بشرية تتكلم في كل شيء ولا تقول أي شيء، تنطق ألسنتهم بنقيض ما يؤمنون به، وتجني أيديهم عكس ما يدعون إليه، وهم بذلك في منزلة بين المنزلتين، لاهم من دعاة الإصلاح، ولا من دعاة الإفساد الصريح، بل هم أقرب إلى التضليلين والمنافقين الذين يبيتون مع إنسان ويفطرون مع عدوه وينتصرون لمن رجحت كفته ولو لثانية أو منزلة.

إن الفوضى الحاصلة هي نتيجة لتردي العقل، وقلب الحقائق لتصبح التفاهات والسخافات مبادئ وقيم، وتتحول المبادئ الكونية الراقية إلى أفكار متخلفة، وكأنك بالبعض من الناس لم يعودوا يميزون بين يدهم اليمنى واليسرى، فإن قلت لهم كما يقول الكشافة أو الجنود: يمين/ يمين يظهر العجب بتخبطهم المتناقض والتماسهم الاتجاه المطلوب في الشمال والجنوب وغيرهما من الاتجاهات، وإن قلت لهم: يسار/ يسار يحصل اختلاط، فلا أحد ميز يساره عن  يمينه، مما يتعذر معه وجوبا عدم معرفة اتجاه السير في انسجام ووضوح للوصول إلى الاماكن المطلوبة الغايات المرجوة منها.

إن من يسعى لملء كوب ممتلئ يضيع وقته ويهدر إمكانياته ومقدراته، لأنه لا يعرف أمفيد وصالح كل ما بالكأس، أم أن الفساد يهم بعضا منه أو كله، أو أنه اختلط وامتزج ما بالوعاء لدرجة يصعب الفصل ولا التمييز، فيضعف الجهد وتتعطل الإرادات الصالحة الساعية نحو ملء سليم لغايات أسلم، وتنقية وتصفيه رصينة من أجل مردودية وجودة يعم خيرها ونفعها.

إن عمليات الإفراغ السلبية العشوائية قد تتسبب في تهميش الكفاءات وتعطيل اجتهادها، وتضييق مجالات حرية الإبداع والمنافسة الشريفة، وتجعل الإصلاح تعسفيا تكون نتائجه عكس المخطط له أو المفترض والمنتظر تحققه إيجابا. وإن الملء السلبي للمجتمع مثلا ببدائل تقوم مقام الأحزاب والنقابات والنخب المتنورة والمعطاءة يؤثر بشكل خطير على التوازنات الطبيعية بالمجتمع والدولة، فلا الدولة متحمسة في سعيها وانتظارها لنتائج تلبي رغبتها وطموحاتها من محاورة من تم إضعافهم لأنهم لم يعودوا يمتلكون قوة معنوية تأطيرية وتنظيمية ميدانية، ولا المجتمع يستطيع أن يحقق النتائج المرجوة من تحركاته المناسباتية وردود أفعاله على سياسات تضر بمصالحه .

فهل نحن أمام أزمة العقل السياسي والمؤسساتي والمجتمعي؟ أم أمام عقل فقد زمام  نفسه والواقع؟ أم أن دورة الحياة السياسية لم تجد العقول المهيأة لفهم وضبط شروطها ومتطلباتها للإجابة عن أسئلة المجتمع والدولة من أجل غد أفضل يكون فيه مجتمع المعرفة والعلم هو عصب الحياة والشؤون العامة، والعقل الواعي متحققا عند المواطن والمسؤول؟