وضعت معركة "الحولي" أوزارها أخيرا، حاملة معها كل مشاهد القلق والتوجس واللغط والهستيريا والجشع والطمع والاحتيال الناعم، وفي الحصيلة، شوارع وطرقات وأحياء تحاصرها نفايات ومخلفات العيد وما ارتبط به من حرف وأنشطة موسمية عابرة عبور السحاب، وحركة شبه منعدمة توحي بالهدوء الذي يسبق العاصفة، لاتخترقها إلا رائحة شواء "بولفـاف" المنبعثة بكبريـاء من النوافذ والأبــواب، وقهقهات بعض الأطفال الصغار المزهوين بلبـاس العيد، تجمهـروا عند أبواب المنازل والعمارات، وعيونهم تتراقص بحثا عمن يجـود عليهم بفلـوس العيد من الأقارب والجيران والزائرين، ولغط بعض الشباب اليافعين الذيـن التفوا حول بعضهم البعض لتقاسم ما جادت به عملية "شـي الرؤوس"، تاركين وراء ظهورهم "قرون" متفحمة متناثـرة ونيـران ورمـاد.
داخل كل بيت وبيت ألف حكاية وحكاية، هناك من اقترض من الغير وهناك من "قرضه" البنك وهناك من دخل في الأجرة طولا وعرضا كالبـراق حتى قبل أن يحل شهر غشت، وهناك من تسول في الشوارع والطرقات والمقاهي والمطاعم والمحطات الطرقية لعله يدبر "فلوس العيد"، وهناك من اضطر إلى بيع أغراضه الشخصية لتدبيـر مبلغ يكفـي لوضـع اليد على "الحولي" لإدخال الفرحة على قلوب أطفال، لا يعرفون لغة الحساب ولا الفقر ولا الحاجة ولا قلة ذات اليـد، إلا "الحولي" الـذي يرسم على وجوههم البريئـة فرحة العيـد، وهناك من جاد عليه أحد المحسنين بخروف العيد، وهناك من استعصى عليه ذلك، في واقــع مقلق بات فيه العيد مرادفا للغـلاء والمضاربات واللغط والتباهي والجشع والطمع والأنانية المفرطة والتسول والنصب والاحتيـال، بعيدا كل البعد عن قيم التضامن والتعاضد والتراحم والصدقة والتبرع والرحمة والرأفة والتعاون والإحسان، بشكل أفرغ العيد من طقوسه الدينية والروحانية، وحولناه بأنانيتنا وجشعنا، إلى موعد سنوي اختزلناه بقصد أو بدونه في "هستيريا" البحث عن الكباش والإقبال المبالغ فيه على التسوق و "بولفاف" و"شي الرؤوس" والولائم "اللحمية" والاعتداء الجسيم على البيئة بدون حسيب أو رقيب، وغير ذلك من ممارسات العبث والتهور التي باتت طقسا مألوفـا من طقــوس العيـد.
بنحـر أضحية العيد لمن تأتى له ذلك، وبمجـرد الانحنـاء الطوعـي أمـام سلطة "بولفــاف" وكؤوس الشاي المـنـعـنــع، والتسكـع بين زقاقات "لكتف" و"لحم الـراس" و"الشــواء"، تبـدأ حكايات أخرى في التشكل، مرتبطة بمعركة ثانية لا تقل أهمية، ذات الصلة بالدخول المدرسي الذي بات كابوسا مزعجا للكثير من الأسـر، وقبلـه يتعيـن على جميع الموظفين والأجراء خاصة من ذوي الدخل المتوسط والمحدود، منـازلة ما تبقى من شهــر يوليـوز، والاستعداد الجيد لتدبيــر شهر غشت، الذي سيكون شهرا طويلا شاقـا وقاسيـا، بعـد أن تم الإفــراج عـن الأجـور بشكل استثنائي قبل موعدها بأسبوعيـن، أمـا "الكسابة" فسيستريحون استراحـة محارب، قبـل الانخـراط في تربيـة قطيـع جديد استعدادا لعيـد جديد إذا ما كـان في العمر بـقيــة.
أما "الكزارة" أو الجزارة أو "أطباء العيد"، فالعيد بالنسبة إليهم فرصة مواتية لاستهداف الجيوب بدون رحمة ولا شفقة، بل بكل لهفة وجشـع، عبر امتهان نشاط موسمي بات ملازما لعيد الأضحى، مرتبطا بتقطيع "الحوالا" أو الأضحيات، لم يعد يهمهم يـوم العيد ولاطقس العيد بل ولا حتى "بولفاف" العيد، لاشئ يعلو عليهم فــوق "مائة درهم" للحولي و"20" درهما لتقطيع الرأس، والأثمنة تـــزيد بكثير أو تنقص بقليل حسب المدن والأحيـاء، ويكفي القيام بجولة في الأحياء والشوارع يوم العيد، لتتوقف النظرات عند "طوابير" بشرية تتجمهر أمام محلات الجزارة من أجل "تقطيع الحولي"، في مشاهد عاكسة لمتغيـرات سوسيولوجية، توحي أن طقـوس العيد الكبير التي عشناها ونحن صغارا، باتت آخذة في الانسحاب في صمت، لتحل محلها عادات غريبـة اختزلت العيد في شراء الأضحية وهستيريا التسوق والذبح والتقطيع عند الجزار والتخزين في الثلاجات والمبردات، في انتظار عيد جديد، تنتج فيه المسرحية ذاتها، مع تغييرات طفيفة في الديكور والإخـراج.
عيد هذه السنة ستليه بعد أسابيـع معركة الانتخابات، لذلك، فالكثير من الكائنات الانتخابية، سيمر عليها "بولفاف" وطقوس الشواء بدون طعم ولا رائحة ولا حتى نكهة، بعضها يمنـي النفـس في الفوز لصون المكاسب ، والبعض الآخر يتـأهب لخوض أول نزال انتخابي، وعينه تتطلـع إلى فـــوز يوصل إلى "حلاوة السياسة"، وبين الفئتيـن، " طبقة ناخبة" اكتوت بأثمنة خروف العيد، وستكتوي بلهب شهر طويل سيمر"شهرا في الجحيم" بالنسبة للكثير من الأسر، سيفضي مباشرة إلى دخول مدرسي سيكون هذه السنة أكثر هلعـا وأكثر قسـوة، بل واكتوت منذ سنوات بانتخابات لاتقدم ولا تؤخر وبمتخبيـن بات جلهم كالهلال، لايظهـــرون إلا في مواسم وأشهر الانتخابات لجني الأصوات وبعدها يرحلون.
"طبقة ناخبة" هي في الأصل طبقات، بعضها عـازف وبعضها الثاني خارج النــص، وبعضها الثالث متـردد وبعضها الرابــع مشارك، وبعضها الخامس "خبـزي "يمنـح الصوت لمن يقدم بسخاء أو يسدي خدمة أو يمنح وعدا معسـولا، وفي انتظار انطلاق نزال "الحملة الانتخابية" بما تحمله من هستيريا وعبث ولغط ووعـود انتخابية كاذبــة واعتداءات جسيمة على البيئـة، من حق الكثيـر من البسطاء والضعفاء والغلابى أن يسمتعـوا بالعيد وخاصة بلحـم العيـد وبولفـاف العيد، لأن ذلك أصبـح مستعصيا على الكثير من الأسر في ظل غـلاء الأسعار وارتفاع تكاليف العيـش، ليكون "الدجاج الأبيض" وسمك "السردين" البديل اليـومي الذي لامحيـد عنه للبسطاء والفقراء والمعوزين، وربما بعضهم يستعصي عليه ذلك، فمـن يؤلمه "خروف العيد" وتقسو عليه فواتيـر الماء والكهرباء، ويعيش شبح "البطالة المقنعة"، من الصعب أن نقنعه بالانتخابات وبالحق في التصويت في ميـاه سياسية راكـدة، تكاد تغيب عنها شمس "ربط المسؤولية بالمحاسبة".