في الحاجة إلى بناء جدار عازل  لحماية العمل التطوعي

في الحاجة إلى بناء جدار عازل  لحماية العمل التطوعي حق  المجتمع  المدني في  الفعل والتأثير
هل كان مجلس النواب منسجما، بالطبيعة التلقائية، مع انتظارات المغاربة حين صادق، يوم الخميس الماضي، على مشروع القانون الخاص بتنظيم العمل التطوعي؟ أم أن الأمر تم فقط تعبيرا عن تنازل من الطبقة السياسية إزاء الضغط الممارس من طرف المجتمعات المدنية التي ترى ضرورة هذا الحق، بعد أن تأكد عجز البنيات الدولتية عن تغطية حاجة تلك المجتمعات، مهما كانت  قوة  تلك البنيات، لأن  الفكرة لا تخضع لقرارات السياسيين، ولكن لقرارات الضمير الإنساني، الموجود هنا وهناك، وبلا اعتبار سوى إلى حاجة الإنسان إلى من يساعده تطوعا، بدون طمع في مال، أو حاجة إلى رغبة في الريع، أو في منصب ما، وبالأحرى الحاجة إلى صوته  الانتخابي .
 من هنا جاءت  فكرة التطوع حين قرر المنتظم الدولي شرعنة هذا النزوع نحو فعل الخير بدون التزامات مع الدولة، باستثناء ما يقتضيه الوازع المبدئي والأخلاقي. ومن ثمة صار التقليد التطوعي، منذ مطلع القرن العشرين، وتحديدا بعد الحربين العالميتين الأولي والثانية عنوانا لحركية قطاع هام من البشرية التي اهتدت للترافع من أجل إنقاذ البشرية مما اقترفه جزء من سدنة الحروب، وتجارها المتدافعين من أجل اقتسام العالم  وحربيا.
 في هذا الإطار سجل المغرب أول لحظة تطوعية في تاريخه بالشروع  في تأسيس  جمعيات  مدنية. وقد ترجمت  تلك اللحظة  مباشرة  بعد  حصولنا  على الاستقلال حين  تظافر جهد المغفور له الملك محمد الخامس وزعيم  الحركة الوطنية آنذاك  المهدي بنبركة  من أجل شق طريق الوحدة سنة 1957، تكريسا لربط شمال المملكة مع جنوبها، وللقيم المشتركة باتجاه عمل مشترك من أجل الوطن.
 بعد طريق الوحدة، انطلقت طرق أخرى وتعددت بتعدد صيغ سقوط  الاختيار  الوطني  الموحد، بل  بعد  تمزقه  إثر احتداد النزاع  حول  شرعية  الحكم.  لم  يعد بعدها العمل التطوعي  مبدأ  وطنيا  للجميع. ولكنه  صار،  طوال  مرحلة  ستينات  القرن  الماضي وسبعيناته، عنوانا للصراع بين الدولة والمجتمع، إذ استطاعت القوى الوطنية،  اليسارية خصوصا،  أن تمتلك هذا  القطاع.   بل صار  عنوانها الحركي في  القطاعين الطلابي والجمعوي والثقافي والتربوي بشكل عام.
 حدث ذلك حين كانت المؤثرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية  للمغرب  تتناغم مع حاجات المجتمع. لا ينبغي أن ننسى أنه في هذا الإطار تأسست أبرز مكونات المجتمع المغربي المدني، بدءا من الاتحاد الوطني لطلبة المغرب واتحاد كتاب المغرب وغيرها من الأذرع النقابية، خاصة النقابة الوطنية للتعليم العالي وباقي المؤسسات المدنية التي لعبت،  على امتداد التاريخ الوطني، دور التوازن إزاء هيمنة الدولة.
 مع بدء الثمانينات، و»تحلل» الأفكار الإيديولوجية،  (الاشتراكية مثلا) التي  كانت تقر بفكرة قوة  الجماعة  على  الفرد، وبمبدإ التخطيط الاشتراكي ورعاية الدولة ضدا على التوحش الرأسمالي، وعلى الفردانية كأحد وجوه الشرسة، صار التفكك مهددا لكل عمل تطوعي. ولنترجم ذلك عمليا  لم  يعد العمل في  المؤسسات المدنية  خاضعا  كليا للتطوع المبدئي، المجاني بالتحديد. بل  صار العمل ضمن هذا الإطار يتم بالتعويض مقابل الخدمة.  تعزز هذا المنحى المادي بظهور مساطر دولية للتعويض تقدر بحجم الجهد، وبعدد الاجتماعات، وكذلك بعدد التنقلات...  وهو ما لم  يكن مألوفا في قيم العمل التطوعي سابقا، سواء في قطاعات المجتمع المدني التي تهم التنشيط الثقافي والتربوي، أو في الهيئات الوطنية الكبرى مثل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، أو اتحاد كتاب المغرب، أو النقابة الوطنية  للصحافة  المغربية أو غيرها...
 جيب المتطوعين،  الذي كان سخيا وحده، لم يعد المورد الأساسي. بل  صار يستخلص «نضاله» من  جيب الدولة الذي هو مال عمومي، بل أيضا  مما يسمى «المنظمات  الدولية  غير الحكومية»، وكذلك مما تخصصه الأحزاب  لدعم عملها الدستوري في تأطير المواطن اجتماعيا وسياسيا. وكان هذا هو المنفذ الذي تسربت منه  الأحزاب  الأصولية على الخصوص التي عوض أن تجعل العمل التطوعي قيمة وطنية تكرس روح المواطنة، وتعضد التلاحم المجتمعي، صارت توظف هذا العمل من أجل تسخير الفئات المحتاجة.
وهذا بالضبط ما يفسر التلكؤ في مصادقة مجلس النواب  على مشروع قانون التطوع التعاقدي..
 وبدون الدخول في حيثيات مناقشة هذا المشروع  منذ طرح سنة  2018، فالمؤكد أن لكل دفوعاته، سواء من  طرحه من النواب وقرر تمريره،  أو من  عارضه في البداية، أو من  اتفق  أخيرا  على  المصادقة  عليه بالإجماع.
ولعل  أهم ما  طرح  في  المشروع هو  المادة 21 التي تمنع من أن يتحول  العمل  التطوعي  إلى مجال للاستثمار الشخصي أو التجاري أو الانتخابي.
مجمل  القول إن ما  تحقق يوم  المصادقة على مشروع هذا القانون هو  انتصار  للعمل التطوعي  الوطني، وللعمل  الديمقراطي  الذي  صار يدرج  بقوة القانون  حق  المجتمع  المدني في  الفعل والتأثير.  لكن  مع هذا الانتصار تظل  مراقبة  الدولة واجبة حتى لا ينزاح  هذا العمل  نحو  المرامي الانتهازية،  سواء  كانت تجارية  أو انتخابية أو إرهابية كما هو دأب الأصوليين الذين يقدمون مصلحة العقيدة على مصلحة الوطن. 
التصويت بالإجماع على قانون التطوع التعاقدي نقطة حسنة في سجل العمل التشريعي الوطني، لكن الخطوة محفوفة بالمخاطر إذا ما  غفا عقل الدولة عن  تحويل الحسنة  إلى ما يسقط صرح الديمقراطية. بل  صرح  الدولة تماما.  ذلك هو الجواب  عن السؤال  الذي  افتتحنا به  هذا  تقديم هذا الملف.