لماذا قطع اليسار حبل السرة مع البنية العميقة للمجتمع المغربي؟

لماذا قطع اليسار حبل السرة مع البنية العميقة للمجتمع المغربي؟ عبد السلام لعزيزالامين العام لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي ونبيلة منيب الامينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد وعلي بوطوالة الكاتب الوطني لحزب الطليعة
ليس تراجع اليسار في المغرب وتقلص امتداداته الانتخابية هما ما يثير السؤال، فهذا صار معطى مسجلا بالوقائع والأرقام. ولكن عوامل هذا التراجع هي التي تطرح أمورا إشكالية قد تتغير نتائجها بحسب مرجعيات المتسائلين، ووجهات نظرهم وتموقعاتهم السياسية ومصالحهم المادية.
أما بخصوص المعطى الذي يهم التراجع فالأكيد أن لا أحد يجادل موضوعيا في أننا لا نعيش زمن اليسار. مثلما لم يعد هذا اليسار مجسدا لآمال وتطلعات المواطنين التواقين إلى التغيير كما كان يتم ذلك في عقدي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ولا نحتاج لجهد كبير لنثبت بأن أوضاع اليساريين مقطوعة مع البنية العميقة للمجتمع المغربي، ومع تعبيراته الأساسية داخل روافد المجتمع المدني. كما أن تأثيره في صنع القرار السياسي محدود جدا، وهياكله التنظيمية وبناه الفكرية ترهلت بعد أن عمها صدأ السنين وأمراض ما يسمى «الطفولة» اليسارية التي لا تزال تعلق مشجب أخطائها على الآخر قبل الذات، وتؤجل فكرة النقد والنقد الذاتي لأنها تخشى المواجهة مع الذات. وعوض ذلك تصدر الأعطاب الذاتية إلى تعقيدات المحيط الخارجي.
في هذا الإطار نصوغ أسئلة- فرضيات يمكن أن تبلور فهما مشتركا لواقع التراجعات الراهنة، من بينها التساؤل حول ما إذا كان التراجع يعود، كما يرى البعض، إلى فشل مكونات الحركة الوطنية في كسب معركة الصراع حول الشرعية مع النظام، وإلى أن هذا الأخير قد نجح منذ إطلاق المسلسل الديموقراطي في ترويض المعارضة، مما جعل المغرب يفقد قوة اليسار تنظيميا وشعبيا، كما كان يمثلها في الستينيات والسبعينيات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرر والاشتراكية، ثم لاحقا تنظيمات الحركة الماركسية. ومن ثم انفسح المجال للأصوليين للترويج لخطابهم القائم على فكرة تمثيل الله في الأرض، وعلى إقرار انتساب اليسار إلى عالم الكفر ضدا على الإسلام. أم أن التراجع، وكما يقول اليساريون أنفسهم، يكمن في تراجع وهج اليسار على المستوى الدولي منذ ثمانينيات القرن الماضي، خاصة بعد نجاح المعسكر الليبرالي بقيمه المتوحشة في اكتساح العالم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين،  وإثر هيمنة منطق السوق، وما نتج عن ذلك من سيادة منطق العولمة الذي يعمل على تنميط العالم، وغلبة النزعة الفردانية على خلاف تام مع العالم الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية وفي عقد الستينيات على وجه خاص حيث كانت ثورة ماي 1968 بؤرة ذلك الوهج المفقود اليوم، على الصعيد الأوربي، وبموازاتها كانت الفورات اليسارية في كل مناطق العالم تعطي الدليل على إمكانيات التغيير.
ضمن نفس السياق، يمكن التساؤل حول ما إذا كان التراجع متأتيا من انحسار المد اليساري حتى في المحيط العربي حيث كانت حقبة الستينيات تعرف انتعاش المد اليساري عبر امتداد شوكة الشيوعيين العرب، وكذلك من خلال بروز الناصرية التي مثلت بالنسبة لأنصارها روح العداء للإقطاع وللرجعية محليا، وللإمبريالية والصهيونية عالميا. وبعد ذلك شهد العالم العربي «براديغمات» جديدة منذ نهاية السبعينيات، وتحديدا منذ نجاح الثورة الشيعية في إيران سنة 1979 التي أعطت الأمل لأنصارها بإمكانية بروز الاختيار الإسلامي كحل لمعضلات التخلف والتنمية والتمثيل السياسي والعلاقات مع الغرب؟.
وستتطور هذه المعادلة الجديدة ضمن معطى مختلف في تسعينيات القرن الماضي عبر بروز تنظيم القاعدة وسليلته «داعش»، لاحقا اللذين اقترحا تقسيما جديدا للعالم مميزين بين عالم الإيمان وعالم الكفر، ومبشرين بوشوك قيام الخلافة الإسلامية التي ستحيي أمجاد السلف الصالح.
الذين يجيبون بالإيجاب عن هذه الأسئلة-الفرضيات يؤكدون أن من الطبيعي أن يحشر اليسار في الزاوية الضيقة، وأن يصير بلا قواعد ولا جمهور ولا مصوتين. لكن السؤال الحقيقي هو: هل هذا قدر مفروض على قوى اليسار لا تستطيع تجاوزه؟
لا نعتقد ذلك لأن الإقرار به يعني إعفاء اليساريين من مسؤوليتهم بعد أن حولوا حلبات الصراع إلى الصالونات، وبعد أن لاذوا بفكر الخشب ولغاته عوض الإنصات إلى نبض المجتمع، ومن ثم فمعركتهم لاستعادة دور اليسار حيوية. في هذا الإطار تطرح المرحلة الراهنة مهاما مستعجلة بهذا الخصوص، في مقدمتها:
- تجديد فكر اليسار عبر الخروج من المنطق المغلق إلى رحاب الفكر الديموقراطي، بما يعنيه ذلك من قدرة على محاورة الأصدقاء والخصوم والأعداء عوض الاكتفاء باتهام  الآخرين في ما يشبه نزعة التكفير عند الأصوليين.
- القطع من النزعة العدمية التشكيكية، ودمقرطة الحوار داخل اليسار نفسه قبل مطالبة الآخرين به.
- ربط الجسور مع البنية المجتمعية والتصالح مع كل فئات المجتمع والإسهام في بناء جديد للمجتمع المدني...
إنها الشفرة السرية للانتصار على أعطاب اليساريين، وهو القدر الحقيقي لليسار لأننا نرى دائما أن وجوده عامل توازن استراتيجي في معادلة الصراع القائمة اليوم مع قوى الارتداد والتطرف، وإلا فالساحة ستبقى فارغة لاختيارين اثنين لا ثالث لهما الأصولية والعدمية بأشكالها المختلفة بما فيها الشعبوية التي صارت موضة عالم اليوم.