جعفر الكنسوسي: قضية جامع الفنا.. قصة إحياء (1)

جعفر الكنسوسي: قضية جامع الفنا.. قصة إحياء (1) مثال شهرزاد المرأة المثقفة الحاكية العالمة الكيسة البارعة الجمال، استطاعت بحكمتها أن تداوي العلل البشرية النفسية لصاحبها شهريار و تنقذ نفسها و الإنسانية.. (وفي الإطار جعفر الكنسوسي)

تشهد مدينة مراكش الآن لحظة تاريخية حقا بفضل مشروع الترميم وإعادة التأهيل الملكي الضخم الذي لم يعرفه تراث مراكش من قبل قرون مضت. ومنذ قرن بالضبط، كان المكان الذي يُدعى الرحبة (جامع الفناء)، قد تغيّر كثيرا ومساحته صارت تنكمش. أرادت الإدارة المخزنية أن توقف الانجراف، فلم يحدد إصدار ظهير عام 1922 من قبل السلطان مولاي يوسف شكل الساحة فحسب، بل أيضاً الروح التي تحفظ عليها درجة من الأصالة. بطريقة ما، كانت هذه السنة الفاصلة الأولى التي أرست محاولة كبح جماح الأوربية في التقدم. ومع ذلك، فإن التغيير العميق قد استهلك بالفعل.

 

يمكن للمرء أن يقول جازما أن جميع الإضافات المتعاقبة، وبالتالي التجاوزات العمرانية على جنبات الساحة قد انتهكت القانون. منذ قرون كانت جامع الفناء عبارة على بوتقة للسكان المحليين، فثقافة الكِتاب التي يمثلها جامع الكتبيين تساكن الثقافة الشفوية، وأهل المدينة الحضريون يقتبلون الآفاقيين والرّحل القادمين من بعيد. أمّا اليوم فيمكننا أن نرى الساحة أيضا بعيون الزّائر النّبيه، سواء أكان أجنبيا أم لا. سيُجمع الناس كافة على ضرورة محو آثار الحداثة المتاجرة بالساحة ويباركون التّصدي لنزوع يلتهم ميراثها المعنوي. ألا تسمح لنا الفترة المأساوية لهذا الوباء بأن نفكر في إحياء الساحة، بل وتحريرها أولا واستردادها.

 

هل نضرب موعدا جديدا للمحتوى الثقافي الأصيل لجامع الفناء، بحلقاتها، ومسرح الحكواتي بها؟ ولكن لا نقنع بهذا فقط، بل ينبغي للساحة أن تحيي صلاتها بترحال المجموعات الموسيقية الوطنية كافة. يحق لكل مجموعة أن تعرض أداءها الفني بالساحة. يجب أن ترحب الساحة بالمواهب الشابة، وينبغي أن تتعايش جميع التعبيرات هنالك. لا حق لأحد أن يستولي على الميدان ويسُّدَ أفقَه. كل موجبات هذا العز نراها الآن مهمشة من قبل موائد الإطعام المتناسلة وجمهرة الباعة والمشترين. فالفضاء الذي كان يأوي عالم الخيال ومجمع الألفة قد استعيض عنه بانعكاس مأساوي للمعنى وخسارة بينة للحضارة. في الوضع الراهن، يمكننا أن نقول أنّ هناك اقترانا تاريخيا يتيح تحقيق هذا الإحياء. ولكن تبقى الحقيقة أن المكان يتطلب قبل كل شيء هندسة ثقافية وتجديد ذلك السحر وسلطانه الآسر وما لديه من سر، وذلك السعي وراء المعنى الذي يسعدنا وينتشي به جمع الزوار الوافدين.

 

وبناء عليه، فقد شرعت جمعية منية مراكش لإحياء تراث المغرب وصيانته منذ عام 2009 في الانكباب على طرح مطلب إحياء التراث الشفوي غير المادي لساحة جامع الفناء، وذلك بإقامتها ملتقى الوديعة الروحية لحكايات ألف ليلة وليلة. فساحة جامع الفناء ما زال رواد بسائطها يحيون النفوس بعرضهم لسِيَّر العشاق وملاحم الأولياء وأهل الوداد، ويُذَكِرون بشجاعة علي وكرم حاتم وبطولات الأزلية ومغامرات العنترية وظرف جحا وألف حكاية وحكاية أخرى من أفق المشرق إلى مبلغ المغرب لتنبيه الجمهور إلى الطريق المؤدية إلى تثبيت النفوس. وهذا هو شأن الحكاية وقصة الراوي.

 

وإحياء لهذه المادة الثقافية والروحية لساحة جامع الفناء، أسهمت جمعية منية مراكش كذلك في نشر عدد خاص من مجلة دفاتر تراث مراكش والجهة في دجنبر 2020 (الجزء الثاني من هذا العدد ينشر في يوليوز 2021) أفردته لساحة جامع الفناء و التحديات التي تواجهها. ونشرت في هذا العدد وجهة نظرها جوابا على طلب: تدخل مواكبة لأعمال تهيئة الساحة؛ من قِبَل الإدارة، تقترح فيه إنشاء منصة، ميثاق حرم جامع الفناء، يسهم فيه المجتمع المدني والمواطنون إلى جانب المسؤولين والإداريين في صياغة مقترحات ومقاربات لمستقبل الساحة.

 

(يتبع)