من القرم جنوب أوكرانيا إلى برلين، ومن بريكسيت إلى سباق الرئاسة في واشنطن، ومن إقليم كاتالونيا إلى احتجاجات الريف في المغرب، تدور رحى حرب إعلامية طاحنة تتولى روسيا قيادتها، وتشن غارات توصف بالقذرة ضد الاتحاد الأوروبي متحالفة مع الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا؛ لتقويض أركان الديموقراطية في العالم الغربي.
هي حرب غير تقليدية تلك التي يحشد لها الكرملين جيشا من القنوات الإعلامية والمواقع الالكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي؛ لنشر الأخبار المزيفة والروايات المضللة التي تستهدف الناخبين الأوروبيين، وتروم التأثير في نتائج الانتخابات.
فبعد تزايد شعبية الأحزاب الشعبوية المتطرفة، وبروز الحركات الفاشية في القارة الأوروبية وتولي دونالد ترامب مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، وسيطرة القادة الأكثر تطرفا وعداء للإسلام والأجانب على الحزب الجمهوري، تمكن بوتين من استغلال هذا التفكك المتنامي في الجبهات الداخلية لدول الغرب، وشكل حلفا مع القوى الفاشية المعادية للديموقراطية لضرب الأحزاب الليبرالية التقليدية التي ظلت تقود أوروبا لعقود طويلة.
كان من نتائج تلك الحرب الإعلامية سلسلة من الدعوات الانفصالية في أوروبا، بعضها تكلل بالنجاح مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبعضها ما زال رهين التجاذبات الداخلية مثل كاتالونيا، وبعضها الآخر في طور النمو والتشكل مثل المنادين بالانفصال عن ألمانيا في إقليم بافاريا. وأدى التدخل الروسي في شؤون الاتحاد الأوروبي إلى حصد مرشحة الجبهة الوطنية العنصرية في فرنسا مارين لوبان لأول مرة 34% من أصوات الناخبين في انتخابات الرئاسة الفرنسية، وفوزها مؤخرا بمقعد داخل البرلمان الفرنسي، ودخول الحزب اليميني المتطرف في ألمانيا لأول مرة أبواب البرلمان.
فكيف تتعامل الحكومات الأوروبية مع هذه الحرب الجديدة التي تشنها روسيا على دول الاتحاد؟، وما هي الميكانيزمات التي تعتزم أوروبا تفعيلها لمجابهة التحديات التي تفرضها المنظومة البيئية للإعلام الروسي؟ وما الدور الذي تلعبه شبكات التواصل الاجتماعي في التأثير على قرار الناخبين؟ وكيف يتصدى جهاز فرز الأخبار للأخبار المضللة؟ وما هي خلفيات جنود حرب المعلومات الروس ومنطلقاتهم الأيديولوجية في هذه الحرب؟ هل هي فعلا خطة لإحياء الامبراطورية الروسية، و إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عندما كان للروس اتحادا سوفياتيا وكانت أوروبا دولا متفرقة؟
أسئلة وغيرها يجيب عنها سيمون شوستر في هذا التقرير الذي نشرته مجلة تايم الأمريكية تحت عنوان "حرب الأخبار المزيفة القادمة":
في صباح من صباحات شهر نوفمبر، فوجئ البروفيسور سيمون هيغيليش أستاذ العلوم السياسية في جامعة ميونيخ التقنية بدعوة من أنجيلا ميركل؛ المستشارة الألمانية قالت إنها تريد أن تطلع على أبحاثه حول التلاعب بمشاعر الناخبين.
قبل ذلك بأقل من أسبوعين كانت الانتخابات الأمريكية قد أسفرت عن فوز دونالد ترامب، مما حدى بالمحللين إلى التنبيه أن مركل عليها أن تدرك بسرعة خطورة "فقاعات الترشيح" على الانترنت، و"البوتات"، والأخبار المزيفة، والتضليل الإعلامي، وأغلبها مرتبط بالمزاعم التي تقول أن روسيا اختطفت بها الانتخابات الأمريكية.
ما كان من الماضي قد يكون مقدمة لما سيأتي تقول ميركل. ومع الانتخابات الألمانية المرتقبة في 24 من سبتمبر، فالمستشارة تعلم أن رهانها للظفر بولاية رابعة قد يواجه نفس الأساليب القذرة التي استعملت في سباق الرئاسة الأمريكي. وباعتبارها الزعيمة الأقوى في أوروبا والناقدة العنيدة للكرملين؛ فإن ميركل دقت نواقيس الخطر حول حملة "التضليل" الروسية في ألمانيا. فلقد تمت سرقة رسائل إلكترونية لحلفائها السياسيين عام 2015 من طرف نفس القراصنة الذين استهدفوا بعد ذلك السباق الرئاسي الأمريكي حسب محققين ألمان وأمريكيين. وعلى امتداد 12 سنة لها على رأس السلطة، شاهدت ميركل كيف عملت الأجهزة الإعلامية للكرملين على إذاعت الانتقادات المعادية لسياساتها بمختلف اللغات.
قلقها لا ينحصر فقط في القنوات الإعلامية الروسية التي تنشر الأضاليل، يقول هيغيليش، بل أيضا الخوارزميات الآلية، المعروفة بالبوتات، التي تجعل التقارير الملفقة متداولة بشكل فيروسي سريع الانتشار، قبل أن يتمكن السياسيون ومدققو الأخبارFact-checkers من تفنيدها. ففي يونيو أظهرت دراسة أن 59% من الألمان قالوا أنهم شاهدوا أخبارا مضللة على الانترنت، 61% منهم قالوا إنها تمثل تهديدا للديموقراطية.
لهذا فإن حكومة ميركل تعد نفسها للحصار، فتحالفها في البرلمان، أقر قانونا في أواخر يونيو سوف يفرض غرامات تصل إلى 59 مليون دولار على فايسبوك وشبكات تواصل اجتماعي أخرى التي لا تبادر إلى حذف "المحتوى غير القانوني"، وهو التعبير الذي استعملته حكومة ميركل لاستهداف جميع المواد المتعلقة سواء بخطاب الكراهية أو المواد البورنوغرافية أو الدعاية المشوِّهة.
"الأخبار المزيفة تشكل تهديدا على ثقافة المناظرة عندنا" يقول المسؤول الذي كان وراء هذا القانون في تصريح لجريدة ألمانية يناير الماضي. "ينبغي ألا يتسامح مع المجرمين الذين يحرضون على شبكات التواصل مثل الذين يحرضون في الشارع"، يضيف المسؤول.
البيت الأبيض على دراية تامة بهذا التحدي، ففي السادس من غشت قال مستشار الأمن القومي هيربيرت رايموند ماكماستر "إن التضليل الإعلامي الروسي ماض كل يوم في مجهود لتمزيق أوروبا إلى أجزاء".
الإجراء الذي اتخذته ألمانيا بإنشاء شبكة الرقابة على المحتوى الالكتروني التي سوف تباشر عملها في أكتوبر؛ هو أحد أشد ردود الأفعال تجاه تأثير الحملة التي تشنها موسكو، لكنه ليس الوحيد. فقد أنشأ الاتحاد الأوروبي مكتبا مكرسا لتفنيد الأخبار الكاذبة والبروباغاندا الروسية، ووكالة تابعة للشرطة التشيكية تقوم بفحص محتوى وسائل الاتصال الاجتماعي و تهديدات مختلطة (hybrid threats) أخرى. وكان الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون قد منع شبكات إخبارية مثل روسيا اليوم وسبوتنيك من دخول مقرات حملته الانتخابية في أبريل.
هذه الإجراءات تشير إلى المخاوف، أو البارانويا، بأن أدوات التخريب السياسي قد توغلت بما فيه الكفاية لتهدد الديمقراطيات الغربية. "مدار الديمقراطية كله حول الرأي العام". يستدعي هيغليش ما قاله لميركل. "وإذا كانت هناك طرق جديدة للتلاعب بالرأي العام، إذا سوف نطلب شكلا جديدا للديموقراطية". هذا قد حصل بالفعل في بعض النواحي. في زمن يمكن للقراصنة عمليا سرقة أسرار أي سياسي كان، وحيث الاتصال بشبكة الانترنت هو كل ما تحتاجه لقيادة جمهور يعد بالملايين، وتدوينة واحدة- حتى وإن كانت ملفقة- تنتشر سريعا؛ كافية للتحكم في مصير انتخابات بأكملها.
ليس هناك اليوم ديمقراطية في منأى عن هذه المخاطر والتهديدات، بيد أن روسيا وألمانيا برزا كاللاعبين الأكثر تصميما في هذا الصراع على التأقلم في هذا المضمار الجديد، و إعادة تشكيله حيث أمكن ذلك.
التصويت الألماني سيكون امتحانا أوليا: فإما أن تجري الحملة الانتخابية في أجواء من القرصنة والتسريبات والتضليل الإعلامي كالذي طبع الحملة الانتخابية الأمريكية، أو أنها سوف تسير على عادة النهج الألماني المنظم، على هدي القوانين التي تحاول حكومة مركل سنها على عجل.
- شرطة الأخبار المزيفة
من مكاتبه في لندن، تابع ريتشارد ألان نائب رئيس فايسبوك للسياسة العامة في أوروبا تشكل هذه القوانين الألمانية بمزيج من الدهشة والاستسلام. فإجراء شبكة الرقابة سوف يمنح لشبكات التواصل الاجتماعي دورا جديدا له ثقله في النقاش السياسي، وفعليا يتحول الفايسبوك إلى "حكم على الحقيقة" يقول ألان، "ولسنا مرتاحين في هذا الوضع".
لكن ادعاء فايسبوك كونه وسيلة اتصال محايدة سقط خلال الانتخابات الأمريكية، ففي غضون أسبوع من انتصار ترامب، اعترف المدير التنفيذي لفايسبوك مارك زاكربورغ؛ بأن العموم كانوا على حق عندما تساءلوا عن دور الشركة في انتشار الأخبار الكاذبة. لكنه نوه أيضا إلى أن "تحديد 'الحقيقة' أمر معقد".
وبدل أن تلعب شركة فايسبوك دور الحكم على الحقيقة، فقد أوكلت ذلك إلى مدققي أخبار مستقلين، الذين يغربلون أعداد لامتناهية من المقالات، نظريات المؤامرة، والشائعات، ويعملون في نهاية المطاف على تصحيح الخلل وإعطاء الصورة الطبيعية التي يعكسها الواقع السياسي بعيدا عن تشويه الشائعات.
في ألمانيا، شركاء فايسبوك في تدقيق الأخبار هو نوع جديد من صحافة التحقيقات ويطلق عليها اسم "المصحح" Correctiv ، وتقع غرفة الأخبار المكتظة الخاصة بهم في الطابق الثاني من مبنى تغطيه دوالي العنب وسط برلين، فوقه بنسيون وتحته حانة.
جوتا كرام مديرة فريق المصحح المكون من أربعة من مدققي الأخبار، لا تهتم كثيرا عما إذا كانت الأخبار الكاذبة آتية من روسيا أو من المتعاطفين معها في الجناح اليميني الألماني. "نريد فقط أن نكون مستعدين لهم" تقول كرام. "وإنه لمن المهم جدا أن نتخذ خيارنا الانتخابي بناء على الحقائق لا على الأكاذيب".
عملها هو التقاط الفرق وتصفية الأخبار. كل صباح يصل إلى صندوق رسائلها بريد إلكتروني من فايسبوك مليء بالمواد المشكوك في صحتها مجروفة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي. كثير منها يرد عبر المصافي والمفارز الآلية التي تصطاد البلاغات الكاذبة والروابط ذات المحتوى المثير التي تروم جلب الانتباه. والباقي يرد من خلال ما يُؤشّر عليه مستعملو فايسبوك العاديون من منشورات يعتبرونها خاطئة أو عدائية. وتكون النتيجة بين أيدي المصحح؛ فوضى رقمية يعملون النظر فيها والبحث عن المنشورات التي تتعمد التضليل وقابلة للانتشار.
أكثرها رواجا في ألمانيا تلك التي تتعلق بسياسة ميركل حول الهجرة، قصص ملفقة أو مبالغ فيها بشدة عن مهاجرين يتحرشون بنساء ألمانيات أو يقترفون جرائم عنيفة أخرى. وحتى عندما يتم تفنيد مثل هذه الروايات فإن الخبراء يؤكدون بأنها تساهم في إضفاء جو من عدم الثقة في الأجانب. ويساعدون أيضا نقاد ميركل في إذاعة لومهم لحكومتها التي كثيرا ما تتهم بتعريض البلاد للخطر بسماحها لمئات الآلاف من اللاجئين بدخول الأراضي الألمانية.
عندما ترد مثل هذه الأخبار إلى صندوق بريد المصحح، يقوم صحفيوه بملاحقة المصدر الأصلي وإصدار تقرير يكشف أغلاطه و تضليله. وما يميز عمل المصحح عن باقي مدققي الأخبار، هو قدرتهم -بمساعدة فايسبوك- على "اختراق فقاعات الترشيح للأشخاص الذين يطالعون تلك الأخبار المزيفة"، تضيف ترام.
فقد وافق فايسبوك كنوع من التعاون مع المصحح أن يصل إلى حيز تغذية الأخبار الخاص بالمستخدمين ووضع ملصق تحذيري بمحاذاة المنشورات محل الشبهة. فالفكرة ليست في حجب أو حذف المحتوى، بل في جعل المستخدمين يفكرون مرتين في مصادره. "لسنا وحدنا من يقوم بعملية تدقيق الأخبار". "فالنظام البيئي السليم هو النظام الذي يقوم فيه مراجعو حقائق خبراء بعملهم. وبمقدورهم أن يصلوا إلى الناس من خلال فايسبوك".
- محاربو حرب المعلومات
لكن هذا النظام ما برح يسمح لكثير من الأخبار المزيفة أن تنتشر. فمن بين أشد الدعائيين شراسة الذين يتعامل المصحح معهم؛ هي عملية روسية صغيرة لكنها متنامية يطلق عليها جبهة الأخبار News Front، وهي قناة متعددة الوسائط تضخ محتوى بلغات مختلفة من ضمنها الألمانية والإسبانية والإنجليزية، وتضم فريق عمل مكون من عشرة أفراد، وبضعة عشرات من المساهمين حول العالم؛ إنها من بين أحسن اللاعبين تجهيزا في المنظومة البيئية الإعلامية الروسية، علما أن مصادر تمويلها مجهولة.
قسطنطين كنيريك، مؤسس ورئيس تحرير جبهة الأخبار ذو الثامنة والعشرين ربيعا، يعتبر نفسه محاربا معلوماتيا أكثر منه صحفيا في العصر الرقمي، ويملك السيرة المهنية والعلاقات التي تثبت ذلك. مراهقا في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، أصبح عضوا نشطا في اتحاد شبيبة يوراسين، وهي زمرة من الوطنيين المتعصبين الروس، الذين يناضلون من أجل موسكو في سبيل إعادة الامبراطورية التي خسرتها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
لقد كان كنيريك يمثل الشبيبة في القرم وعمره لم يتجاوز 16 عاما، وهي شبه جزيرة شاسعة في جنوب أوكرانيا. وفِي ربيع 2014، عندما اجتاحت القوات الروسية المنطقة واستعدت لضمها إليها، قاد هو طابورا من شبه العسكريين الموالين لروسيا، لمصادرة مقرات صحافة التحقيقات القرمية، وهي الوكالة الإخبارية المستقلة الرائدة في المنطقة. القوات الروسية طردت الصحافيين العاملين بالمركز بالقوة وصادرت معداتهم، عندها كنيريك أنشأ جبهة الأخبار التي حلت محلها.
اليوم، قناته تذيع بثها من خلال استوديو في سميفربول، عاصمة القرم، مع خلفية تشرف على المنطقة التي تسيطر عليها السلطات المدعومة من الكرملين. متحدثا عبر هاتفه من مكاتبه في يونيو، كنيريك يقدم نفسه كقوة مضادة للبروباغاندا الغربية الحربية ضد روسيا: "نريد الناس أن يسمعوا وجهة نظر بديلة". في الولايات المتحدة وأوروبا، يضيف، "كل ما يملكون هو غياب المعلومة، مع كل هذه الأشياء التي تقصف رؤوسهم، وكل تلك الأكاذيب السخيفة التي تروجها قنوات الدعاية الرسمية".
إنها الرواية المفضلة للإعلام الروسي؛ فقد قالت مارغريتا سيمونيان رئيسة تحرير شبكة روسيا اليوم التي أسسها الكرملين؛ قالت لمجلة تايم كلاما مشابها في 2015: "لا أحد يعرض وقائع موضوعية"، تقول. حتى فكرة المراسلة الموضوعية لا تتماشى مع المنظور الدولي، الأمر كله يدور حول التنافسية، لا توجد مراسلَة أكثر مصداقية من الأخرى.
يؤكد كنيريك أن غرفة الأخبار التي يديرها مستقلة عن تأثير الحكومة. ورغم ذلك نجد أن مراسلي جبهة الأخبار، تمتعوا بنفاذ استثنائي إلى القوات المسلحة الروسية، وتجدهم عادة محشورين مع القوات المسلحة والشبه النظامية المقاتلة في سوريا وجنوب أوكرانيا. وما يجعل جبهة الأخبار تبرز دون باقي القنوات الروسية، هو أنها نادرا ما تحاول الحفاظ على مستوى متوازن من الممارسة الصحفية. فموقعها على الشبكة يدعو الأعضاء العاملين في الوكالة بالمقاتلين المتطوعين في حرب المعلومات، والذين مهمتهم هي: الدفاع عن مصالح الحضارة الروسية، والكشف عن الوجه الحقيقي لأعداء العالم الروسي.
قناتا روسيا اليوم وسبوتنيك اللتان تتلقيان دعما معلنا من الدولة، تحاولان الظهور بمظهر الشركات الإعلامية الاحترافية، وتقدمان الرواية الروسية المحرفة للأحداث، دون اللجوء إلى الشوفينية الصريحة والفبركة المفضوحة. بينما تعمل أختهما في القرم؛ جبهة الأخبار، على خلاف ذلك، فهي تبدو كالقوات غير النظامية المشاكسة، تشحذ لنفس الأهداف والإيديولوجيا بنفس أكثر عدوانية، متحررة من أي صلة مباشرة بالكرملين.
فالمساهمون فيها من أوروبا عادة ما يحررون منشوراتهم بصفة مجهولة مستعملين مُعَرّفا رقميا يحميهم من متابعة السلطات، الأمر الذي لا تتمتع به القنوات الروسية الرسمية. كما أن المراسل الرئيسي لجبهة الأخبار في ألمانيا، مثلا، يستخدم أسماء مستعارة، ويرفض كنيريك الإفصاح عن اسم المراسل الحقيقي. "إنني أخشى عليه، وعلى باقي المتطوعين، يمكن أن يلقى عليهم القبض"، يقول كنيريك، وكأنهم جنود خلف خطوط العدو.
في تحليل لتأثير العملية الروسية في ألمانيا نشر في يونيو، أظهر مختبر البحث القضائي الرقمي للمجمع الأطلسي، وهو خلية تفكير Think Tank مقرها بواشنطن، أن جبهة الأخبار تعد إحدى ثلاث "مضخمات" رئيسية للكريملين، إلى جنب روسيا اليوم وسبوتنيك." معا، تمثل هذه الشبكة قناة قوية يمكن من خلالها إدخال الأضاليل الإعلامية إلى فضاء المعلومات في ألمانيا قبيل الانتخابات"، يورد التقرير.
- ماذا بعد
وإذا كانت روسيا وألمانيا ترصان الخطوط الأمامية في حرب المعلومات الجديدة هذه، فإن السلطات في أوروبا ما زالت تحاول تجهيز القوات. فمنظمة إيست ستارتكوم StartCom East، التي تتخذ من بروكسيل مقرا لها، والتي أنشأها الاتحاد الأوروبي عام 2015 لمواجهة التضليل الإعلامي الروسي، تبدو بائسة التجهيز، صحافيوها الثلاثة، يعكفون على إعداد قائمة أسبوعية للأخبار المزيفة، ويحاولون تفنيدها وكشف زيفها على فايسبوك وتويتر. لكن الوكالة لا تملك حتى ميزانية خاصة، وتأثيرها في منصات التواصل الاجتماعي يعد ضئيلا، فصفحتها على الفايسبوك لم تحرز إلا زهاء 18 ألف إعجاب مقارنة بالمليون إعجاب وزيادة الذي تحضى به صفحة سبوتنيك.
"لديهم آلاف الأشخاص الذين يروّجون لروايات لا أساس لها من الصحة"، يقول جون-كلود جانكر، الرئيس التنفيذي للوكالة لمجلة تايم فبراير الماضي. و"لدينا بضعة أشخاص فقط، لأنني لا أريد أن أوسع المهمة لتشمل آلاف الموظفين المدنيين الجدد ليردوا على تلك الأخبار".
هناك مشكلة أخرى، وهي أن مطاردة مثل هذه المنشورات المضللة على الإنترنت كثيرا ما يجلب مزيدا من الانتباه إليها، وفِي حقبة تتسم بكثرة الأنصار والحزبيين من كل لون، يجد العديد من القرّاء ميولا إلى تصديق تضليل يقوي قناعاتهم السياسية. "الأخبار المزيفة، لها بدايات مبكرة دائما"، يقول بيتر بورغر المحاضر بجامعة ليدن في هولاندا، والذي يدرس كيفية انتشار الأخبار الزائفة. "حتى لو تم تفنيدها من قبل مدققي الأخبار، فكثير من الناس سوف يقولون إننا مجرد ليبراليين في برج عاجي، أو طرف في مؤامرة ما".
والمقاربة الأمثل، يضيف بورغر، تكمن في تدريس مقرر يتعلق بالتدقيق في المحتوى الإلكتروني في المدارس، وجعل الطلاب أكثر وعيا بالمصادر التي يتلقون منها المعلومة. لكن المقاربة التربوية ستتطلب سنوات لتؤتي ثمارها وفِي غضون ذلك تكون تكنلوجيا الأخبار المزيفة قد حققت تقدما مضطردا.
في يوليوز، كشف أكاديميون من جامعة واشنطن أن بمقدورهم "تركيب" مقطع مرئي لباراك أوباما يقرأ سطورًا لم ينطق بها أبدا في الواقع. "بإمكانك خلق فيديوهات تبدو تماما كما لو أنها حقيقية"، يقول هيغليش، الذي ظل يقدم النصائح للحكومة الألمانية بعد ذلك اللقاء الأول مع أنجيلا ميركل في نوفمبر. اليوم، قد يتطلب الأمر ساعات إن لم يكن أياما لإصدار تحليل رقمي يظهر أن فيديوهات من هذا القبيل هي مواد مفبركة، وفِي آخر المطاف فإن أقصى ما يمكن تحقيقه من كشف تلك الفبركة والتضليل، هو أنها تجعل الناخبين في ألمانيا وغيرها متشككين في من يصدقون وهم في طريقهم إلى مراكز الاقتراع. "إنها (الأخبار المضللة) تترك أثرا للشك في كل شيء"، يضيف هيغليش. وإذا كان الهدف من وراء ذلك هو تقويض الديموقراطية، فإنها مهمة قد تمت بنجاح.